الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.التفسير الإشاري: .قال نظام الدين النيسابوري: واعلم أن أهل الدين طائفتان: الواقفون والسائرون. والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان: سيار وطيار. فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة، الطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة. فالإشارة في قوله: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا} إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم: ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة، وقال بعضهم: كاشف لي صاحب اليمين وقال لي: أمل علي شيئًا من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله. قال: فقلت له: حسبك الفرائض. فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هاربًا منه. فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلًا وحفيظ للطالب {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله، رهان وأية رهان، قلوب ليس فيها غير الله قبض، وأي قبض؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن. أما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب، مغلوب العقل، مجذوب السر، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد. وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين. لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] ولقب في النهاية بالظلم والجهل {إنه كان ظلومًا جهولًا} [الأحزاب: 72] هذا أمر عجيب ونقش غريب، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين. ومن أطاع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة، نعم إنما يكون ذلك لوجهين: أحدهما أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق كما أن العزة والعظمة وقعت في طرف المعشوق بل جمال عزة المعشوق، لا يظهر إلا في مرآه ذلة العاشق. وثانيهما أن من له كمال عزة الأمانة يلزم كمال ذلة المؤتمن في الظاهر بصلاح كتمان أمر الأمانة. وقد يختص غير المؤتمن بحسن الثناء عليه ليكون عزته في الظاهر وذلته في الحقيقة يدلك على حقيقة حفظ السر خطاب، {اسجدوا لآدم} [البقرة: 34] وعتاب {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] {فإن أمن بعضكم بعضًا} كما اخترتك من بين الخليقة واصطفيتك على البرية بحمل الأمانة {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} ولا تكتموا الشهادة، أشهدتكم على أنفسكم يوم الميثاق بإقرار قبول الأمانة فقلتم: بلى شهدنا. فاليوم أطالبكم بأداء حقها فأدوها لي ملفوفة بلفاف التقوى «الإيمان عريان ولباسه التقوى» وكتمان الشهادة أن يكون شهودك مع غير شواهد ربك، وهذا من نتائج خيانة قلبك في أمانة ربك، فلا يشاهد قلبك إلا شواهد ربك، ولا يؤدي سرك حقيقة أمانة ربك إلا إلى ربك بربك لربك. اهـ. .قال الألوسي: .تفسير الآية رقم (284): .مناسبة الآية لما قبلها: .قال البقاعي: ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال: {ما في السماوات} أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره {وما في الأرض} مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء. ولما كان التقدير: فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد، عطف عليه محذرًا من يكتم الشهادة أو يضمر سوءًا غيرها أو يظهره قوله تعالى: {وإن تبدوا} أي تظهروا {ما في أنفسكم} من شهادة أو غيرها {أو تخفوه} مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها. قال الحرالي: من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته {يحاسبكم} من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها {به الله} أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال. قال الحرالي: وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلًا فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلًا في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفًا- انتهى وفيه تصرف. ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدمًا الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف: {فيغفر لمن يشاء} أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا {ويعذب من يشاء} بتكفير أو جزاء. ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحًا بما لزم تمام علمه من كمال قدرته: {والله} أي الذي لا أمر لأحد معه {على كل شيء قدير} أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها. قال الحرالي: فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق- انتهى. اهـ.
|