الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط
ثُمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ النَّصِّ خَمْسٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فَحُكْمُ النَّصِّ فِيهِ ثَابِتٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ خَرَجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا بِعَدَدِ الْخَمْسِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا مُبْطِلًا لِلنَّصِّ ثُمَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فِي مَعْنَى الْأَذَى دُونَ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْخَمْسَ مِنْ طَبْعِهَا الْبُدَاءَةُ بِالْأَذَى، وَمَا سِوَاهَا لَا يُؤْذِي إلَّا أَنْ يُؤْذَى فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِيَلْحَقَ بِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ إلَى غَايَةٍ فَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ هَكَذَا لِأَنَّ النَّصَّ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الِاصْطِيَادِ لَا حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ، وَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَمَا تَثْبُتُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِقَتْلِ الضَّبُعِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّبُعَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَفِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «حِينَ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ أَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِيهِ؟ قَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَسَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نَعَمْ»، وَلَكِنْ السَّبُعُ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ الْمُحْرِمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّيْدِ هَدَرٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْجَرْحِ أَيْ جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ.أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ إذَا كَانَ السَّبُعُ مَمْلُوكًا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ مِنْهُ أَوْ مِنْ السَّبُعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ قَتَلَ ضَبُعًا فِي الْإِحْرَامِ فَأَهْدَى كَبْشًا، وَقَالَ إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ فَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ بَيَانُ أَنَّ الْبُدَاءَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ السَّبُعِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْخَمْسَ مُسْتَثْنَاةً لِتَوَهُّمِ الْأَذَى مِنْهَا غَالِبًا، وَتَحَقُّقُ الْأَذَى يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ تَوَهُّمِهِ فَتَبَيَّنَ بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَمَا أَلْزَمَهُ تَحَمُّلَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ فَإِذَا جَاءَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ صَارَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ أَذَاهُ مُطْلَقًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْعِبَادِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إتْلَافِهِ مُطْلَقًا حَتَّى يَسْقُطَ بِهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَتْلُ الْمُحْرِمِ الْقَمْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ قَمْلَةً وَجَدَهَا عَلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ، وَلَكِنْ إذَا قَتَلَ الْقَمْلَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا يَضْمَنُ لِمَعْنَى قَضَاءِ التَّفَثِ بِإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا كَانَ مُضْطَرًّا فَقَتَلَ صَيْدًا لِأَنَّ الْإِذْنَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الْآيَةَ، وَالْإِذْنُ عِنْدَ الْأَذَى ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السَّبُعَ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ بِقَتْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عَلَى قِيَاسِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيُودِ هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْخِلَافَ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ فِيمَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَهُنَاكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَيْنَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا أَوْ لَا يُجَاوِزُ بِالْقِيمَةِ شَاةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَقَطْ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ كَسَائِرِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلَحْمِهِ بِفِعْلِهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ فِي الْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْأَسَدِ لِمَعْنَى تَفَاخُرِ الْمُلُوكِ بِهِ لَا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يُجَاوِزُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَاتَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ.(قَالَ) وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا.وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَثْنَى مَكَانَ الْحَدَأَةِ الْغُرَابُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَيَخْلِطُ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَأَمَّا الْعَقْعَقُ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا، وَالْخِنْزِيرُ وَالْقِرْدُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مُؤْذٍ بِطَبْعِهِ، وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى قَتْلِهِ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْت لِكَسْرِ الصَّلِيبِ، وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ»، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَيَكُونُ نَصُّ التَّحْرِيمِ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَكَذَلِكَ السَّمُّورُ وَالدَّلَقُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفِيلُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ وَحْشِيًّا فَأَمَّا الْفَأْرَةُ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْحَدِيثِ وَحْشِيُّهَا وَأَهْلِيُّهَا سَوَاءٌ وَالسِّنَّوْرِ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ أَهْلِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا.وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا فَهُوَ مُتَوَحِّشٌ كَالصَّيُودِ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا الضَّبُّ فَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَمْسَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَيَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَرَانِبُ وَالْيَرْبُوعُ يَجِبُ بِقَتْلِهِمَا الْقِيمَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِ غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُنْفُذِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْفَأْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ جَعَلَهُ كَالْيَرْبُوعِ فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانِ حَمَلًا أَوْ عَنَاقًا لَمْ يُجْزِهِ الْحَمَلُ وَلَا الْعَنَاقُ مِنْ الْهَدْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَدْنَى مَا يَجْزِي فِي ذَلِكَ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَلِكَ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ فَكَمَا لَا يَجْزِي هُنَاكَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِ الْحَمَلِ وَالْعَنَاقِ كَمَقْصُودٍ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ هُنَا الْهَدْيُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَكَمَا لَا يُجْزِئُ الْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَا يُجْزِئُ هُنَا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَوَّزُوا ذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ اسْتِحْسَانًا بِالْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُسَمِّي الدَّرَاهِمَ وَالثَّوْبَ هَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَالْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ أَوْلَى فِي ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ يَكُونُ عَنَاقًا وَفَصِيلًا وَجَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى نَاقَةً فَنَتَجَتْ كَانَ وَلَدُهَا هَدْيًا مَعَهَا يُنْحَرُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَدْيٍ لَكَانَ يَتَصَدَّقُ بِهِ كَذَلِكَ قَبْلَ النَّحْرِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أُجَوِّزُهُ هَدْيًا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا كَمَا يُجَوِّزُ بِهِ التَّضْحِيَةَ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا إذَا نَتَجَتْ الْأُضْحِيَّةُ (قَالَ) وَفِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَوْجَبَا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ الْقِيمَةَ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ الْمُحْرِمَ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ صِيدَ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْجُرْحِ بِالتَّكْفِيرِ فَقَتْلُهُ الْآنَ جِنَايَةٌ أُخْرَى مُبْتَدَأَةٌ فَيَلْزَمُهُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ فِي الْأُولَى لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إذَا كَفَّرَ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ إلَّا مَا نَقَصَهُ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ مَجْرُوحٍ فَأَمَّا إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ مِنْهُ جِنَايَةٌ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بَاقٍ فَيُجْعَلُ الثَّانِي إتْمَامًا لَهُ فَأَمَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ قَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً.(قَالَ) مُحْرِمٌ جَرَحَ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَدَّاهَا لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ جِنَايَتُهُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِجُرْحِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَدَّى الْوَاجِبَ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَإِذَا تَمَّ الْوُجُوبُ بِذَلِكَ السَّبَبِ جَازَ الْمُؤَدِّي كَمَا لَوْ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ.(قَالَ) وَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ، وَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ النَّاسَ يُحْرِمُونَ وَلَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ بُرُوجُ الْحَمَامَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ أَحَدٌ لِإِرْسَالِ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَلَا أُمِرَ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ لِإِزَالَةِ الصَّيْدِ عَنْ مِلْكِهِ، وَتَعَرُّضُهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصَّيْدُ غَائِبًا عَنْهُ فِي بَيْتِهِ لَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَرِّضًا لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّطَيُّبُ وَلُبْسُ الْمَخِيطِ فَلَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ.(قَالَ) وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالدَّجَاجَةَ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا فَمَا لَا يَكُونُ جِنْسُهُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا لَا يَكُونُ صَيْدًا.(قَالَ) وَكَذَلِكَ الْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَسْكَرِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ هُوَ كَالدَّجَاجِ مُسْتَأْنَسٌ بِجِنْسِهِ فَأَمَّا الْبَطُّ الَّذِي يَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ يَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْحَمَامُ أَصْلُهُ صَيْدٌ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي الْمُسَرْوَلِ مِنْ الْحَمَامِ شَيْءٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ لَا يَفِرُّ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَمَامُ بِجِنْسِهِ مُمْتَنِعٌ مُتَوَحِّشٌ فَكَانَ صَيْدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدْ اُسْتُؤْنِسَ كَالنَّعَامَةِ وَحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَغَيْرِهِمَا.(قَالَ) وَاَلَّذِي يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً فَأَمَّا طَيْرُ الْبَحْرِ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ، وَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الْآيَةَ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ قَتْلُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْقَتْلُ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ بَحْرِيَّ الْأَصْلِ وَالْمَعَاشِ كَالسَّمَكِ فَأَمَّا الطَّيْرُ فَهُوَ بَرِّيُّ الْأَصْلِ بَحْرِيُّ الْمَعَاشِ لِأَنَّ تَوَالُدَهُ يَكُونُ فِي الْبَرِّ دُونَ الْمَاءِ فَيَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَكُونُ مَائِيَّ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضُّفْدَعِ جُعِلَ مَائِيًّا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ بَرِّيَّ الْأَصْلِ لَا يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ فِيهِ.(قَالَ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ ظَبْيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهَا، وَوَلَدَهَا فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ الظَّبْيَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا لِإِزَالَةِ جِنَايَتِهِ، وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي الْحِلِّ شَرْعًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُ وَلَدِهَا مَعَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْتَفِعُ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَإِذَا ذَبَحَهُمَا فَقَدْ فَوَّتَ الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِمَا شَرْعًا فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ الرَّدُّ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَبِذَبْحِهِمَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى.(قَالَ) وَأَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّيْدَ، وَأَنْهَاهُ عَنْهُ لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي حَقِّهِ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ أَصْلًا، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فَإِنْ عَطِبَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الصَّيْدِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ جَزَاؤُهُ أَيْضًا إنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ جَانٍ عَلَى الصَّيْدِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي مُفَوِّتٌ لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ.(قَالَ) وَإِنْ اصْطَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ مَعْنًى بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ إحْدَى قَوَائِمِ الظَّبْيِ (قَالَ) مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا، وَقَدْ أَزَالَ ذَلِكَ الْأَمْنَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ أَمْنِهِ بِأَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْحَرَمِ فَيُرْسِلَهُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ نَسْخُ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، وَنَسَخَ فِعْلَهُ بِأَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ.(قَالَ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَا أَعَادَهُ آمِنًا كَمَا كَانَ فَإِنَّ الْأَمْنَ كَانَ ثَابِتًا بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَرَمِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْنُ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَانِي عَنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْحَرَمِ سَالِمًا فَحِينَئِذٍ يَبْرَأُ عَنْ جَزَائِهِ كَمَا إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.(قَالَ)، وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْرِمُ بِالصَّيْدِ مِمَّا يُتْلِفُهُ مِنْهُ أَوْ يُعَرِّضُهُ لِلتَّلَفِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَلِمَ فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ انْتِسَاخُ حُكْمِ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْرَحَهُ فَتَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَوْ يَنْتِفَ رِيشَهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ أَوْ يَقْلَعَ سِنَّهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَاسَا هَذَا بِالضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْقُطُ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْفِعْلِ أَثَرٌ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هُنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْصَلَ مِنْ الْأَلَمِ إلَى الصَّيْدِ لِأَنَّ بِانْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ لَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِبَارُ الْأَلَمِ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ثَمَنَ الدَّوَاءِ، وَأُجْرَةَ الطَّبِيبِ إلَى أَنْ تَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ.(قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَلَالِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُحْرِمَ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُحْرِمِ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعِينَ شَرِيكًا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْإِعَانَةِ فَقَدْ أَتَى بِضِدِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَكَانَ عَاصِيًا فِيهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّوْبَةِ.(قَالَ) وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ زَجْرًا لِلْمُحْرِمِ عَنْ اصْطِيَادِهِ فَإِنَّهُ تَقِلُّ رَغْبَتُهُ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى مِنْهُ الصَّيْدُ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً جَزَاءٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} الْآيَةَ فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَمْدِيَّةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ يَمْنَعُ وُجُوبَهُ عَلَى الْمُخْطِئِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ كَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ كَفَّارَةٌ تُوجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُخْطِئِ كَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَارْتِكَابُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْعَمْدِ فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وَهَذَا الْوَعِيدُ عَلَى الْعَامِدِ دُونَ الْمُخْطِئِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَمْدَ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِيَّةِ فِي الْقَتْلِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِتَمَحُّضِ الْحَظْرِيَّةِ فَذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هُنَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا وَجَبَ إذَا كَانَ خَطَأً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَتْلُ أَوَّلَ مَا أَصَابَ أَوْ أَصَابَ قَبْلَهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَأَمَّا الْعَائِدُ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ اذْهَبْ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْك لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْعَوْدِ إلَيْهِ، وَجَزَاءُ الْجِنَايَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْعَوْدِ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَائِدِ أَظْهَرُ مِنْ جِنَايَةِ الْمُبْتَدِئِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ عَادَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الرِّبَا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} يَعْنِي مَنْ عَادَ إلَى الْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ- بِالْحُرْمَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَوْدَ إلَى الْقَتْلِ بَعْدَ الْقَتْلِ.(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.أَمَّا الْكِتَابُ فَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَحْرَمَ، إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَشْتَى، إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ.وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» فَإِذَا ثَبَتَ أَمْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ الْقَاتِلُ جَانِيًا بِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا مُحْتَرَمًا مُتَقَوِّمًا فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ، وَالْجَزَاءُ قِيمَةُ الصَّيْدِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ إلَّا أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَتَأَدَّى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَفِي التَّأَدِّي بِالْهَدْيِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ أَيْضًا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا الْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْوَاجِبُ جَزَاءَ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَعْنَى الْغَرَامَةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْحِلِّ يَغْلِبُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْمُتْلَفِ بِالنَّصِّ إمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْأَصْلِ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فَكَانَ جَانِبُ الْمَحِلِّ هُوَ الرَّاعِي فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ.وَأَمَّا عِنْدَنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى جَزَاءِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحِلِّ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِي الْمُبَاشِرِ، وَهُوَ إحْرَامُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ يَجُوزُ لَهُ الِاصْطِيَادُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ وَصْفُ الْمَحِلِّ، وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحِلِّ، وَهُوَ صِفَةُ الْأَمْنِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَحِلِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانُ النَّامِي مِنْ الْأَشْجَارِ النَّامِيَةِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَيَاةِ مِثْلِهَا، وَثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَجِبُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَانَ هَذَا بِغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ أَشْبَهَ فَكَمَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَإِتْلَافِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ فَكَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ يُقَرِّرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْ مَحَلِّ أَمْنٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُ بِمُقَابَلَتِهِ إثْبَاتُ صِفَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْجُوعِ لِلْمِسْكِينِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالْإِطْعَامِ يَحْصُلُ دُونَ الصِّيَامِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لِارْتِكَابِهِ فِعْلًا مُحَرَّمًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِفِعْلِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الصِّيَامُ، وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ هُنَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ حَتَّى يُشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ فِي الْغَرَامَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَلُّكُ مِنْ الْمُحْتَاجِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي اللَّحْمِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ حَتَّى إذَا سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْمَالِ خَالِصًا بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا (قَالَ) وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَثْبُتُ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْمَمْلُوكِ كَالْأَشْجَارِ فَإِنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَقَاسَ هَذَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ لَا يُزِيلُ الرِّقَّ الثَّابِتَ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى يَجِبَ إرْسَالُهُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِيِّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَأَمَّا الصَّيْدُ مَمْلُوكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَهُوَ مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَإِنْ بَاعَ الصَّيْدَ بَعْدَمَا أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا يُرَدُّ إنْ كَانَ الصَّيْدُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ فِي الصَّيْدِ مَانِعَةٌ مِنْ بَيْعِهِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ.(قَالَ) رَجُلٌ أَدْخَلَ الْحَرَمَ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْأَمْنُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَاتِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مُبَاشَرَةَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَفْعُ الْيَدِ عَنْ الصَّيْدِ الْآمِنِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ عُهْدَةُ مَا يَفْعَلُهُ الصَّيْدُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ فَجَعَلَ الْعَبْدُ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُعْتِقِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ.(قَالَ) وَلَا خَيْرَ فِيمَا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ، وَلَا يُدْخِلُ الْحَرَمَ شَيْئًا مِنْهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَيْهِ بِمَكَّةَ بَيْضَ نَعَامٍ وَظَبْيَيْنِ حَيَّيْنِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا، وَقَالَ أَهْدَيْتُهُمَا إلَيَّ آمِنَيْنِ مَا كَانَا أَيْ مَا دَامَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُمَا صَارَا آمِنَيْنِ بِإِدْخَالِهِمَا فِي الْحَرَمِ حَيَّيْنِ، وَالْحَجَلُ وَالْيَعَاقِيبُ مِنْ الصُّيُودِ فَبِإِدْخَالِ الْحَرَمِ إيَّاهُمَا حَيَّيْنِ يَثْبُتُ الْأَمْنُ فِيهِمَا فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي هَذَا التَّرْخِيصُ بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَإِنْ ذَبَحَهُمَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْحَرَمَ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِهِمَا فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ اللَّحْمَ فِي الْحَرَمِ، وَاللَّحْمُ لَيْسَ بِصَيْدٍ.(قَالَ) وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ، وَالْمُوجِبُ لِلْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ هَذَا الصَّيْدِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا.(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَهَذَا، وَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا قِطْعَةً مِنْ الْحَرَمِ فَمَرَّ فِيهَا السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا الرَّامِيَ فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الصَّيْدِ فَهُوَ صَيْدُ الْحِلِّ، وَبِمُرُورِ السَّهْمِ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ، وَلَا فِي حَقِّ الرَّامِي، وَالسَّهْمُ لَيْسَ بِمَحَلِّ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّامِي شَيْءٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ.(قَالَ) وَإِنْ جَرَحَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي وَقْتِ الْجَرْحِ كَانَ مُبَاحًا، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ مُوجِبًا كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ هَذَا الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْهُ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَلَكِنَّهُ كُرِهَ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ حُكْمٌ يَثْبُتُ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ عَنْهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُحَرِّمُ التَّنَاوُلَ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْجَرْحِ يُبِيحُ تَنَاوُلَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ.(قَالَ) وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْكُوفَةِ، وَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْحَرَمُ كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى التَّبْلِيغِ إلَى الْحَرَمِ هُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا أَصَابَ كُلُّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذْ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ دُونَ الْكِسْوَةِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا أَصَابَ كُلَّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.(قَالَ) وَإِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ بِالْكُوفَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَأَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَصَابَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا يَظْهَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْحَلَالِ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَالْمُحْرِمِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ الدَّالُّ فِيهِ كَالْمُبَاشِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْلِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.(قَالَ) وَإِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ تَعَلَّقَ بِالْمَذْبُوحِ فَإِذَا صَرَفَهُ إلَى حَاجَتِهِ صَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَهُ بَعْدَمَا ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُرِقَ فَإِنَّ الْهَدْيَ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ، وَبَقِيَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ مُعَلَّقًا بِعَيْنِ الْمَذْبُوحِ فَإِذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ بِالْأَكْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِيهِ لَا أَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ لِأَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ صَاعٍ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَأَمَّا فِي الْهَدْيِ فَالتَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ دُونَ التَّصْدِيقِ بِاللَّحْمِ ثُمَّ التَّصَدُّقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِالطَّعَامِ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعِ فَفَضَلَ مُدٌّ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هَذَا الْمِقْدَارَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الصَّوْمَ يَصُومُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا أَوْ يُطْعِمُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّوْمَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} فَإِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْجَرَادَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ حِمْصَ أَصَابُوا جَرَادًا كَثِيرًا فِي إحْرَامِهِمْ فَجَعَلُوا يَتَصَدَّقُونَ مَكَانَ كُلِّ جَرَادَةٍ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَى دَرَاهِمَكُمْ كَثِيرَةً يَا أَهْلَ حِمْصَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.(قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَالنَّمْلِ وَالْحَلَمَةِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفِرُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الصَّيُودِ كَانَتْ مُؤْذِيَةً بِطَبْعِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ قُمْ فَقَرِّدْ الْبَعِيرَ فَقَالَ أَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لَوْ أَمَرْتُك بِنَحْرِهِ هَلْ كُنْت تَنْحَرُهُ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ كَمْ مِنْ قُرَادٍ وَحَمْنَانَةٍ تُقْتَلُ بِالنَّحْرِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْقُرَادِ وَالْحَمْنَانَةِ شَيْءٌ، وَيُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلَةِ لَا لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ قَتْلُهُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الشَّعْرِ فَإِنْ قَتَلَهَا فَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْقَمْلَةِ إذْ لَا خَيْرَ فِي الْقَمْلِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَمْلَةُ ضَالَّةٌ لَا تُلْتَمَسُ فَلِهَذَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ بِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ.(قَالَ)، وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ إنَّ الْمَاءَ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَاءُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا شَعَثًا.(قَالَ) وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَصَابَ بَيْضًا مِنْ بَيْضِ الصَّيْدِ فَأَعْطَاهُ مُحْرِمًا فَشَوَاهُ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ، وَقَدْ أَفْسَدَهُ الْمُحْرِمُ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِفِعْلِ الْمُحْرِمِ مَا يَحْتَاجُ فِي حِلِّهِ إلَى الذَّكَاةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الذَّكَاةِ فِي حِلِّ تَنَاوُلِ الْبَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمَجُوسِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَا الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ كَمَا لَوْ دَلَّ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَا يَحْرُمُ بِهِ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ.(قَالَ) مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبُ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَرْتَفِضُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْقَصْدِ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ الْعِبْرَةَ لِلْمَحَلِّ دُونَ الْفِعْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى الرَّفْضِ بِفِعْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ ارْتِفَاضَهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِحْرَامَ لَازِمًا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يَرْتَفِضُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِهَا فَكَانَ هُوَ فِي قَتْلِ الصَّيُودِ هُنَا قَاصِدًا إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ رَفْضِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ كُلِّ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ حَتَّى أَنَّ ضَارِبَ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ بِخِلَافِ نَاصِبِ الشَّبَكَةِ.(قَالَ) وَلَا يَتَصَدَّقُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهُ ذِمِّيًّا أَجْزَأَهُ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ كُلُّ صَدَقَةِ وَاجِبَةٍ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ثَمَّةَ.(قَالَ) وَإِذَا بَلَغَ جَزَاءُ الصَّيْدِ جَزُورًا فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ أَغْنَامًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ التَّعْظِيمُ فِي الْهَدَايَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ اشْتَرَى أَغْنَامًا فَذَبَحَهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْهَدَايَا نَحْوَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ.(قَالَ) وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ بِالْجَزُورِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلَا أَنْ يُقَلِّدَهُ لِأَنَّ سُنَّةَ التَّقْلِيدِ وَالتَّعْرِيفِ فِيمَا يَكُونُ نُسُكًا، وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّعْرِيفُ وَالتَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، وَعَلَى هَذَا هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ نُسُكًا فَالتَّشْهِيرُ فِيهِ أَوْلَى لِيَكُونَ بَاعِثًا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ كَفَّارَةً فَسَبَبُهُ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ فَالسِّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ التَّشْهِيرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذَا الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ يَسْتُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ».(قَالَ) وَإِذَا رَمَى الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الرَّمْيِ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِمَا يَتَعَقَّبُهُ لَا بِمَا يَسْبِقُهُ.(قَالَ) وَإِذَا رَمَى طَائِرًا عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ لَمْ يُنْظَرْ إلَى أَصْلِهَا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى مَوْضِعِ الطَّائِرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغُصْنُ فِي الْحِلِّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِالْغُصْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهُ} فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعَ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ هَوَاءِ الْحَرَمِ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَوَاءِ الْحِلِّ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحِلِّ فَأَمَّا فِي قَطْعِ الْغُصْنِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَغْصَانِ بِالشَّجَرَةِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَيُجْعَلُ حُكْمُ الْأَغْصَانِ حُكْمَ أَصْلِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ فِي الْحَرَمِ، وَبَعْضُهُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدٍ قَائِمُ بَعْضِ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ يَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَوَائِمُ الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ قِوَامَهُ بِقَوَائِمِهِ دُونَ رَأْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِمًا وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ قِوَامُهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَإِذَا كَانَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» قَالَ هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كُلُّ مَا لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ.وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَطَعَ دَوْحَةً كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ تُؤْذِي الطَّائِفِينَ فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا، وَحُرْمَةُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ يَأْوِي إلَى أَشْجَارِ الْحَرَمِ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَتَّخِذُ الْأَوْكَارَ عَلَى أَغْصَانِهَا فَكَمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهُ فَكَذَلِكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُ، وَشَجَرُ الْحَرَمِ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ لَا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَأَمَّا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ سَوَاءٌ أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ أَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي الْحَرَمِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ فَأَمَّا مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَطْعِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِمَا يَنْبُتُهُ النَّاسُ عَادَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ بِأَنْ نَبَتَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى قَالُوا لَوْ نَبَتَ فِي مِلْكِ رِجْلِ أُمِّ غِيلَانٍ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ.(قَالَ) وَإِنْ قَطَعَ رَجُلَانِ شَجَرَةً مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا قِيمَةُ وَاحِدَةٍ عَلَى قِيَاسِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا قَتَلَهُ رَجُلَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا يَسْتَوِي إنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَلَالَيْنِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَتَكَامَلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا حُرْمَةُ الشَّجَرَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّجَرَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الصِّيَامُ إنَّمَا يُهْدِي أَوْ يُطْعِمُ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ.(قَالَ) وَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَدَّى قِيمَتَهَا لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ فَلَا تَبْقَى أَشْجَارُ الْحَرَمِ، وَفِي ذَلِكَ إيحَاشُ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ انْتَفَعَ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ صَارَ مَمْلُوكًا بِمَا غَرِمَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَقْطُوعِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ صَيْدَ الْحَرَمِ ثُمَّ تَنَاوَلَهُ بَعْدَمَا أَدَّى الْجَزَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّنَاوُلِ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ غَرَسَهَا فَنَبَتَتْ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا، وَيَصْنَعَ بِهَا مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مِلْكُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْبَتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ.(قَالَ) وَمَا تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ حَتَّى سَقَطَ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ بِمَا يَكُونُ نَامِيًا فِيهِ حَيَاةَ مِثْلِهِ، وَالْمُتَكَسِّرُ وَمَا يَبِسَ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى النُّمُوِّ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ.(قَالَ)، وَلَا يُخْتَلَى حَشِيشُ الْحَرَمِ، وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرُ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا قَالَ إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهَا لِقُبُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، أَوْ لِبُيُوتِهِمْ وَقُبُورِهِمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ»، وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَقَهُ لِذَلِكَ أَوْ كَانَ أَوْحَى أَنْ يُرَخَّصَ فِيمَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَمَا لَا يُرَخَّصُ فِي قَطْعِ الْحَشِيشِ فِي الْحَرَمِ بِالْمِنْجَلِ فَكَذَلِكَ لَا يُرَخَّصُ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْتَشَّ، وَيُرْعَى لِأَجْلِ الْبَلْوَى، وَالضَّرُورَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ حَمْلُ عَلَفِ الدَّوَابِّ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَفِي الِاحْتِشَاشِ» ارْتِكَابُ النَّهْيِ، وَكَذَلِكَ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ لِأَنَّ مَشَافِرِ الدَّوَابِّ كَالْمَنَاجِلِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ (قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْكَمْأَةِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُودَعٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ الْقُدُورِ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَجَرِ فِي الْحَرَمِ مُبَاحٌ، وَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ أَيْضًا ثُمَّ حُرْمَةُ الْحَرَمِ خَاصَّةٌ بِمَكَّةَ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيُودِ، وَالْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا فِيهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ «إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وَقَالَ مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصْطَادُ فِي الْمَدِينَةِ فَخُذُوا ثِيَابَهُ»، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَى بَعْضَ الصِّبْيَانِ بِالْمَدِينَةِ طَائِرًا فَطَارَ مِنْ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» اسْمُ ذَلِكَ الطَّيْرِ، وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ مِثْلُ الْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَمَا نَاوَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيًّا، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَتَكُونُ قِيَاسَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِخِلَافِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا مُحْرِمًا (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْبَازِيَ الْمُعَلَّمَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ غَيْرَ قِيمَتِهِ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا صِفَةٌ عَارِضَةٌ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي تَنَفُّرِهِ، وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ، وَلَا يَزْدَادُ لِأَنَّ تَوَحُّشَهُ مِنْ النَّاسِ يَقِلُّ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ زَائِدًا فِي الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّ مُتْلِفَهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَمَالِيَّتُهُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَذَلِكَ يَزْدَادُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا، وَكَذَلِكَ الْحَمَامَةُ إذَا كَانَتْ تَجِيءُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا لِلْعِبَادِ يُعْتَبَرُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُصَوِّتُ فَتَزْدَادُ قِيمَتُهَا لِذَلِكَ فَفِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمَامِ إذَا كَانَ مُطَوَّقًا (قَالَ) وَإِذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُؤَدِّيَ الْجَزَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَوْرَدَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ أَوْ صَيْدٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا غُنْيَةٌ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْمَيْتَةِ أَغْلَطُ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ أَغْلَظِ الْحُرْمَتَيْنِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى أَهْوَنِهِمَا، وَقَتْلُ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ كَالْحَلْقِ عِنْدَ الْأَذَى فَلِهَذَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
|