الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية **
وكان قد وصل يوسف غلام صاحب صيدا رسولاً من جانب المركيس يلتمس الصلح مع المسلمين فاشترط رحمه الله عليه شروطاً منها أن يقاتل جنسه ويباينهم. ومنها أن ما يأخذه من البلاد الإفرنجية بعد الصلح بانفراده يكون له وما نأخذه نحن بانفرادنا يكون لنا وما نتفق نحن وهو على أخذه تكون له نفس البلد ويكون لنا ما فيه من أسرى المسلمين وغير ذلك من الأموال. ومنها أن يطلق لنا كل أسير مسلم في مملكته. ومنها أن فوض الأنكتار إليه أمر البلاد أمر يجري بينهم كان الصلح بيننا وبينه على ما استقر بيننا وبين الأنكتار ما عدا عسقلان وما بعدها فلا يدخل في الصلح وتكون الساحليات له وما في أيدينا لنا وما في الوسط مناصفة وسار رسوله على هذه القاعدة. ولما كان يوم الاثنين الثامن والعشرون من ربيع الأول وصل أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه ووصل جريدة مقدماً على عسكره. وكان وصوله إلى القدس الشريف يوم الخميس مستهل جمادى الآخرى. دخل على السلطان بغتة وعنده أخوه الملك العادل فنهض له وعانقه وسر به سروراً عظيماً وأخلى المكان وتحدث معه بطرف من أحاديث العدو وسأله عن حديث الصلح فذكر أن الأنكتار سكت عنه. وفي هذا اليوم كتب السلطان إلى ولده الملك الأفضل أن يسير إلى قاطع الغزاة ويستلم البلاد من الملك المنصور بن الملك المظفر وكان قد أظهر العصيان بسبب الخوف من السلطان على نفسه وأظهر ذلك ودخل في أمره الملك العادل وسير إلى الملك العادل حتى يتحدث في أمره. وكان ذلك قد شق على السلطان وأثار منه غيظاً عظيماً كيف يكون هذا الأمر من أهله ولم يكن أحد من أهله خاف منه ولا طلب يمينه وهذا كان السبب في توقف الأنكتار في الصلح فإنه ظن أن خلافه يكدر للسلطان شرب الغزاة ويحوجه إلى الموافقة على ما يرضاه فأنفذ إلى الملك الأفضل أن يسير إلى البلاد وكتب إلى الملك الظاهر بحلب المحروسة أن أخاه إن احتاج إلى معونة عاونه وجهزه بحملة كبيرة وسار باحترام عظيم حتى وصل إلى حلب وأكرمه أخوه الملك الظاهر إكراماً عظيماً وعمل له ضيافة تامة وقدم بين يديه تقدمة سنية. وعدنا إلى حديث العدو. ولما كان سادس ربيع الآخر من سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وصل يوسف من جانب المركيس يجدد حديث الصلح ويقول قد انفصل الحال على شيء بينه وبين الإفرنجية فإن نجز في هذه الأيام سارت الفرنسيسية في البجر وإن تأخر بطل الحديث في الصلح بالكلية فرأى السلطان الصلح مع المركيس مصلحة لاشتغال قلبه من جانب الشرق وخاف أن يتصل ابن تقي الدين بكتمر فيحدث من ذلك ما يشتغل الخاطر من الجهاد فأجاب إلى ملتمس المركيس وكتب مع صاحبه مواضعة علة نعت ما تقدم وسار يوسف الرسول بالجواب تاسع ربيع الآخر. ذكر قتل المركيس ولما كان السادس عشر من الشهر وصل من الرسول المنفذ إلى المركيس كتاب أن المركيس قتل وعجل الله بروحه إلى النار وكانت صورة قتله أنه تقدم يوم الثلاثاء ثالث عشر عند الأسقف ثم خرج فقفز عليه اثنان من أصحابه بالسكاكين وكان خفيفاً من الرجال فما زالا يضربانه حتى عجل الله بروحه إلى النار وأمسك الشخصان وسئلا عن هذا الأمر ومن حضهما عليه فقالا: إن الأنكتار حملنا عليه وقام بالأمر اثنان فحفظا القلعة إلى أن اتصل الخبر بالملوك وانعقد الأمر وتدبر المكان. وذلك أنه لما بلغه مؤاخذة السلطان أنفذ إلى الملك العادل رسولا يشفع به ليطيب قلب السلطان ويقترح عليه أحد قسمين إما حرّان والرها وسميساط وإما حماة ومنبج وسلمية والمعرة مع كفالة أخوته فراجع الملك العادل السلطان مراراً فلم يجبه إلى شيء من ذلك فكثرت الشفاعة إليه من جميع الأمراء وهزت شجر رأفة منه فرجع خلقه النبوي وحلف له على حران والرها وسميساط على أنه إذا عبر الفرات أعطي المواضع أفرجها وتكفل أخوته ويتخلى عن تلك المواضع التي في يده ودخلت تحت ضمان الملك العادل ثم التمس الملك العادل خط السلطان ثانياً ولج عليه فمزق نسخة اليمين في التاسع والعشرين من ربيع الآخر وانفصل الحال وانقطع الحديث وكنت المتردد بينهما في ذلكن وأخذ الغيظ السلطان كيف يخاطب بمثل ذلك من جانب أولاد أولاده. ولما كان مستهل جمادى الأولى وصل رسول من قسطنطينية الكبرى والتقى بالاحترام والإكرام ومثل بالخدمة السلطانية في ثالث الشهر وكانت رسالته تشتمل على مطالب منها صليب الصلبوت ومنها أن تكون القمامة بيد قسوس من جانبه وكذا سائر كنائس القدس ومنها أن يكون الاتفاق معه على أن يكون عدوّ من عاداه وصديق من صادقه وأن يوافق على قصد جزيرة قبرص فأقام عنده يومين ثم سيّر معه رسولً يقال له ابن البزاز من الديار المصرية وأجيب بالمنع عن جميع مقترحاته وقيل إن الصليب قد بذل فيه ملك الكرج مائتي ألف دينار فلم يجب إلى ذلك. في البلاد التي هي قاطع الفرات وذلك أنه لما سار الملك الأفضل رقق الملك العادل قلب السلطان على ابن تقي الدين وقد كثر الحديث في معناه وأنفذني السلطان لمشاورة الأمراء في خدمة الملك العادل في أمره فجمعهم في خدمته فذكرت لهم ما راسلني فيه إليهم فانتدب الأمير حسام الدين أبو الهيجاء للجواب وقال نحن عبيده ومماليكه وذلك صبي وربما حمله خوفه أن انضاف إلى جانب آخر ونحن لا نقدر على الجمع بين قتال المسلمين والكفار فإن أراد أننا نقاتل المسلمين صالحنا الكفار وسرنا إلى ذلك الجانب وقاتلنا بين يديه وإن أراد منا ملازمة الغزاة صالح المسلمين وسامحهم. وهذا كان جواب الجميع فرق السلطان وجدد نسخة يمين لابن تقي الدين وحلف له بها وأعطاه خطه بما استقر من القاعدة. ثم إن الملك العادل التمس من السلطان البلاد التي كانت بيد ابن تقي الدين بعد استقلاله وجرت مراجعات كثيرة في العوض عنها وكنت الرسول بينهما وكان آخر ما استقر أنه يسلم تلك البلاد وينزل عن كل ما هو شامي الفرات ما عدا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء وحاصه بمصر بعد النزول عن الجيزة وعليه في كل سنة ستة آلاف غرارة غلة تحمل للسلطان من الصلت والبلقاء إلى المقدس والمغل في السنة المذكورة في مواضعه له ومغل قاطع الفرات في هذه السنة للسلطان أيضاً وأخذ خط السلطان بذلك وسار بنفسه يصلح أمر ابن تقي الدين ويطيب قلبه وكان مسيره في ثامن جمادى الأولى. وكان الإفرنج خذلهم الله تعالى لما رأوا أن السلطان قد أعطى العساكر دستوراً وتفرقت العساكر عنه نزلوا على الدارون طمعاً فيه وكان بيد علم الدين قيصر وفيه نوابه. ولما كان يوم تاسع جمادى الأولى اشتد زحف العدو على المكان راجلاً وفارساً وكان الأنكتار قد استنفذ من نوبة عكا نقابين جبليين فتمكنوا من نقب المكان وأحرقوا النقب وطلب أهل الحصن مهلة بحيث يشاورون السلطان فلم يمهلوهم واشتدوا في القتال عليه فأخذوه عنوة واستشهد فيه من قدر الله له ذلك وأسر من قدر له ذلك وكان ذلك قدراً مقدّراً. ذكر قصدهم لمجدل يابا ولما استولى الإفرنج على الدارون ساروا بعد أن قرروا أمره ووضعوا فيه من اختاروا حتى نزلوا على منزلة يقال لها الحسي وهي قريب من جبل الخليل عليه السلام وذلك رابع عشر جمادى الأولى فأقاموا عليه ثم تأهبوا بقصد حصن يقال له مجدل يابا فأتوه جريدة وخلفوا خيامهم في منزلتهم وكان بها عسكر إسلامي فلقيهم وجرى بينهم قتال عظيم وقتل من العدو كند مذكور واستشهد من المسلمين فارس واحد كان سبب قتله أنه وقع رمحه فنزل ليأخذه فمنعه فرسه الركوب فبادروه وقتلوه وعادوا إلى خيامهم بقية اليوم خائبين ولله الحمد. ولما كان سادس عشر جمادى وصل كتاب من حسام الدين بشارة يذكر أنه تخلف في صور مائة راكب وانضم إليهم من عكا خمسون وطمعوا فخرجوا لشن الغارات على البلاد الإسلامية فوقع عليهم العسكر المرصد لحفظ البلاد من ذلك الطرف وجرى بينهم قتال شديد وقتل من العدو خمسة عشر نفراً ولم يقتل من المسلمين أحد وعادوا خائبين ولله الحمد. ذكر قدوم العساكر الإسلامية للجهاد ولما رأى السلطان ما جرى من العدو من التنبط سير إلى العساكر من سائر الأطراف أن يسابقوا إلى الحضور وكان أول قادم بدر الدين دلدرم مع خلق كثير من التركمان فلقيه السلطان واحترمه ووصل بعده عز الدين بن المقدم في سابع عشر جمادى الأولى بعسكر حسن وآلات جميلة ففرح بها السلطان. وأما العدو فإنه رحل من الحسي ونزل على مفرق طرق منها طريق عسقلان وطريق إلى بيت جبرين وإلى غير ذلك من الحصون الإسلامية ولما بلغ السلطان ذلك أمر العساكر أن سارت نحوه فخرج أبو الهيجاء السمين وبدر الدين دلدرم وابن المقدم وتتابعت العسكر وتخلف هو في القدس لنوع التياث كان عرض له فلما أحس العدو المخذول بظهور العساكر الإسلامية عاد خائباً خاسراً ناكصاً على عقبيه ووصلت الكتب من الأمراء مخبرين برحيل العدو إلى عسقلان. ذكر تعبية العدو لقصد القدس الشريف ولما كان يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الأولى وصل قاصد من العسكر يخبر أن العدو قد خرج في راجله وفارسه وسواد عظيم وخيم على تل الصافية فسير السلطان إلى العساكر الإسلامية ينذرها ويحذرها واستدعى الأمراء جريدة إليه ليعقدوا رأياً فيما يقع العمل بمقتضاه فوصل ورحل العدو من تل الصافية إلى جانب النطرون فنزل شماليه وذلك في السادس عشر من جمادى الأولى وكانت قد سارت من عرب الإسلام جماعة للغزاة على يافا فوصلوا بليل من غير علم بحركة العدو فنزلوا في بعض الطريق يقسمون فوقعت عليهم عساكر العدو فأخذوهم وهرب منهم ستة نفر فوصلوا إلى السلطان وأخبروه الخبر ووصلت الجواسيس وتواترت الأخبار من جانب العدو أنه مقيم بالنطرون لنقل الأزواد والآلات التي تدعو الحاجة إليها في الحرب فإذا حصل عندهم ما يحتاجون إليه قصدوا القدس الشريف حرسه الله تعالى. وفي يوم الأربعاء وصل منهم رسول صحبته غلام كان للمشطوب عندهم يحدث في ذكر نزولهم في بيت نوبة وهو موضع وطأة بين جبال يبنا بينه وبين القدس مرحلة رحل العدو من النطرون يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الأولى ونزلوا بيت نوبة. ولما عرف السلطان ذلك استحضر الأمراء وضرب المشورة فيما يفعل فكانت خلاصة الرأي أن يقسم الأسوار على الأمراء ويخرج ببقية العسكر جريدة إلى جهة العدو فإذا عرف كل قوم موضعهم من السور استعدوا فإن دعت الحاجة إليهم خرجوا وإن دعت الحاجة إلى ملازمة مواضعهم لازموها فكتبت الرقاع وسيرت الأمراء. وكانت طريق يافا سابلة لمن ينقل الميرة إلى العدو فأمر السلطان من في اليزك أن يعمل معهم ما يمكنه وكان في اليزك بدر الدين دلدرم فكمن حول الطريق جماعة جيدة فمرّ بهم جمع من خيالة العدو ويحمون قافلة تحمل ميرة فاستضعفوهم فحملوا عليهم وجرى قتال عظيم كانت الدائرة فيه على العدو وقتل منهم ثلاثون نفراً وأسر جماعة ووصل الأسارى في التاسع والعشرين من جمادى الأولى إلى القدس وكان لدخولهم وقع عظيم وجرى على العدو من ذلك وهن كبير وقويت قلوب اليزكية وانبعثت همومهم حتى حملوا على العسكر ونزلوا إلى أطراف الخيم ولله الحمد. ولما علم المسلمون أن القوافل لا تنقطع خرج جماعة وأخذوا معهم عرباً كثيراً وكمنوا كميناً واجتازت القافلة ومعها جماعة كثيرة فخرجت العرب على القافلة وتبعتهم الخيالة فدحروا بين أيديهم منهزمين نحو المسلمين فخرجت الأتراك عليهم فأخذوا وقتلوا وجرح من الأتراك جماعة وذلك في ثالث جمادى الآخرة. وذلك أنه كان قد تقدم إلى عسكر مصر بالمسير وأوصاهم بالاحتراز والاحتياط عند مقاربة العدو فأقاموا ببلبيس أيّاماً حتى اجتمعت القوافل إليهم واتصل خبرهم بالعدو ثم ساروا طالبين البلاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إليها بالعرب المفسدين. ولما تحقق العدو خبر القوافل أمر عسكره بالاحتياط والتحفظ وسار حتى أتى تل الصافية فبات ثم سار حتى أتى الصافية ثم علق على خيله فئة وسار حتى أتى ماء يقابل حسي واتصل خبر نهضة العدو بالسلطان فأنفذ بنذير للقافلة وكان المندوب لذلك الأمير أخر أسلم والطنبا العادلي وجماعة من الفرسان المذكورين وأمرهم أن يبعدوا بالقافلة في البرية ويتباعدوا عن العدو ما أمكن فاتفق أن العسكر وصل الحسي قبل وصول العدو عليه فلم يقيموا عليه وساروا حتى وصلوا القفل والعسكر المصري فأتوا بالقفل على ذلك الطريق ثقة منهم بأنهم لم يجدوا فيه ذاعراً ولا أحسوا فيه بمخوف فرغبوا في قرب الطريق وسلكوا بالناس هذا الطريق حتى وصلوا إلى ماء الخويلفة وتفرق الناس لأجل الماء فأخبر العرب العدو بذلك وهو نازل برأس الحسي فقام من وقته وسرى حتى أتاهم قبيل الصبح وكان مقدم العسكر فلك الدين أخو الملك العادل لأمه فأشار أسلم بالمسير ليلاً للطريق واستظهارا بالصعود إلى الجبل فخاف فلك الدين أنه إن رحل بالليل جرى أمر على القافلة لتبددها فنادى في الناس أن لا يرحلوا إلى الصباح. وأما الأنكتار فبلغنا أنه لما بلغه الخبر لم يصدقه وركب مع العرب بجمع يسير وسار حتى أتى القفل فطاف حوله في صورة عربي ورآهم ساكنين قد غشيهم النعاس فعاد واستركب عسكره وكانت الكبسة قريب الصباح فبغت الناس ووقع عليهم بخيله ورجله وكان الشجاع هو الذي ركب فرسه ونجا بنفسه وانهزم الناس إلى جهة القفل والعدو يتلوهم فلما رأوا القفل أعرضوا عن قتال العسكر وطلبوا القفل فانقسم القفل ثلاثة أقسام قسم قصدوا الكرك مع جماعة من العرب وعسكر الملك العادل وقسم أوغلوا في البرية مع جماعة من العرب أيضاً. وقسم استولى عليهم العدو فساقهم بجمالهم وأحمالهم وجميع ما كان معهم وكانت وقعة شنعاء لم يصب الإسلام بمثلها من مدة مديدة. وكان في العسكر المصري جماعة من المذكورين كحسين الجراحي وفلك الدين وبني الجاولي وغيرهم من المذكورين. وقتل من العدو زهاء مائتي فارس على رواية وعشرة انفس على رواية. ولم يقتل من المسلمين معروف سوى الحاجب يوسف وابن الجاولي الصغير فإنهما استشهدا إلى رحمة الله تعالى وتبدد الناس في البرية ورموا أموالهم وكان السعيد منهم من نجا بنفسه وجمع العدو ما أمكنهم جمعه من الخيل والبغال والجمال والأقمشة وسائر أنواع الأموال وكلف الجمالين خدمة الجمال والخربندية خدمة البغال والساسة خدمة الخيل وسار في جحفل من الغنية يطلب عسكره فنزل على الخويلفة فاستقى منها ثم سار حتى أتى الحسي. ولقد حكى لي من كان أسيراً معهم في تلك الليلة وقع فيهم الصوت أن عسكر السلطان قد قصدهم فتركوا الغنيمة وانهزموا وبعدوا عنها زمانا ولما انكشف لهم أن العسكر لم يلحقهم عادوا إلى الرحل وهرب في تلك الغيبة جمع من أسارى المسلمين وكان الحاكي منهم فسألته بكم حزرتم الجمال والخيل فاخبر أن الجمال تناهز ثلاثة آلاف والأسارى خمسمائة وتقرب من ذلك عدة الخيل. وكانت هذه الوقعة صبيحة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة ووصل الخبر إلى السلطان في عشية ذلك اليوم بعد العشاء الآخرة وكنت جالساً في خدمتهن وأوصل الخبر شاب من الإصطبلية فما مرّ بالسلطان خبر أنكى منه في قلبه ولا أكثر تشويشاً لباطنه وأخذت في وكان أصل هذه القضية أن الأمير أسلم أشار عليهم أن يصعدوا الجبل فلم يفعلوا فصعد هو وأصحابه فلما وقعت الكبسة كان هو على الجبل فلم يصل إليه أحد من العدو ولم يشعروا به. ولما انهزم المسلمون تبعتهم خيالة الإفرنج وأقام الرجالة منهم يستولون على ما تخلّف من المسلمين من الأقمشة ولما تحقق الأمير أسلم أن الخيالة قد بعدت عن الرجالة نزل إليهم بمن معه من الخيالة وكبسهم من حيث لم يشعروا وقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم دواب من جملتها بغلة كانت تحت هذا القاصد. ثم سار العدو يطلب خيامه فكان وصوله إلى المخيم يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة وكان يوماً عظيماً عندهم أظهروا فيه من السرور وأسبابه ما لا يمكن وصفه وأعادوا خيمهم إلى الوطأة على بيت نوبة وصح عزمهم على القدس وقويت نفوسهم بما حصلوا عليه من الأموال والجمال التي كانت تحمل الميرة والزاد الواصلة من مصر مع عسكرها ورتبوا جماعة على لد يحفظون الطريق على من ينقلون الميرة وأنفذوا الكند هري إلى صور وطرابلس وعكا يستحضر من فيها من المقاتلة ليصعدوا إلى القدس ولما عرف السلطان ذلك منهم عاد إلى الأسوار فقسمها على الأمراء وتقدم إليهم بتهيئة أسباب الحصار واخذ في إفساد المياه بظاهر القدس وتخريب الصهاريج والجباب بحيث لم يبق حول القدس ماء يشرب أصلا وأطنب في ذلك إطناباً عظيماً وأرض القدس لا يطمع في حفر بئر بها فيها ماء معين لأنها جبل ذكر قدوم الملك الأفضل وأمره بالعود عن تلك البلاد وكان قد وصل إلى حلب المحروسة ولما وصل أمر السلطان غليه بالعود عاد مع انكسار في قلبه وتشويش في باطنه فوصل إلى دمشق مستعتباً ولم يحضر إلى خدمة السلطان فلما اشتد خبر الإفرنج سيّر غليه وطلبه فما وسعه التأخر فسار مع من كان قد وصل من العساكر الشرقية إلى دمشق وكان وصله في يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة ولقيه السلطان قريباً من العازرية فترجل له جبراً لقلبه وتعظيماً لأمره وسار وفي خدمته أخوه الملك الظافر وقطب الدين إلى ظاهر القدس.
ولما كانت ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة استحضر السلطان الأمراء عنده فحضر الأمير أبو الهيجاء السمين بمشقة عظيمة وجلس على كرسي في خيمة السلطان وحضر المشطوب والأسدية بأسرهم وجماعة الأمراء ثم مرني أن أكلمهم وأحثهم على الجهاد فذكرت ما يسّره الله من ذلك. وكان مما قلته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما اشتد به الأمر بايعه الصحابة رضي الله عنهم على الموت في لقاء العدو ونحن أولى من تأسّى به صلّى الله عليه وسلّم والمصلحة الاجتماع عند الصخرة والتحالف على الموت ولعل ببركة هذه النية يندفع هذا العدو فاستحسن الجماعة ذلك ووافقوا عليه ثم شرع السلطان بعد أن سكت زماناً في صورة مفكر والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير فقال: الحمد لله والصلاة على رسول الله اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقة بذممكم وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من تلقاه إلاّ أنتم فإن وليتم بأنفسكم والعياذ بالله طوى البلاد طي السجل للكتاب وكان ذلك في ذمتكم فإنكم أنتم الذين تصدّيتم لهذا وأكلتم مال بيت المال فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام. فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال: يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك وأنت أنعمت علينا وكبرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وليس لنا إلا رقابنا وهي بين يديك والله لا يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن نموت. فقال الجماعة مثل ما قال. فانبسطت نفسه بذلك المجلس وطاب قلبه وأطعمهم ثم انصرفوا وانقضى يوم الخميس على أشد حال التأهب والاهتمام حتى كانت العشاء الآخرة وجميعنا في خدمته على العادة وسهرنا حتى مضى من الليل هزيع وهو غير منبسط على عادته ثم صلينا العشاء وكانت العشاء هي الدستور العام فصلينا وأخذنا في الانصراف فاستدعاني فلما جلست في خدمته قال لي علمت ما الذي تجدد قلت: لا. قال: إن أبا الهيجاء السمين أنفذ إليّ اليوم وقال أنه اجتمع عنده جماعة من المماليك وأنكروا علينا مواقفنا على الحصار وقالوا لا مصلحة في ذلك فإنا نخاف أن نحصر ويجري علينا مثل ما جرى على عكا وحينئذ تؤخذ بلاد الإسلام أجمع والرأي أن نلقى مصاف فإن قدّر الله تعالى أن نهزمهم ملكنا بقية بلادهم. وإن تكن الأخرى يسلم العسكر ويمض القدس وقد حفظ الإسلام بعساكره مدة بغير القدس وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال فشقت عليه هذه الرسالة. وأقمت تلك الليلة في خدمته وهي من الليالي التي أحييتها في سبيل الله. وكان مما قالوه في الرسالة إن أردت أن نقيم فتكون معنا أنت أو بعض أهلك وإلاّ فالأكراد لا يدينون للأتراك والأتراك كذلك فانفصل الحال على أن يقيم من أهله مجد الدين بن فخروشاه وصاحب بعلبك. وكان رحمه الله يحدث نفسه بالمقام ثم صرف رأيه عنه لما فيه من الخطر على الإسلام فلما أن قارب الصبح وأشفقت عليه خاطبته في أن يستريح ساعة وانصرفت عنه فما وصلت إلا والمؤذن قد أذّن فأخذت في أسباب الوضوء فما فرغت إلا والصبح قد طلع فعدت إلى خدمته وهو يجدد الوضوء فصلينا ثم قلت له قد وقع لي واقع أعرضه قال وما هو قلت: من كثر اهتمامه بما قد حمل على نفسه وقد عجزت أسبابه الأرضية ينبغي له أن يرجع إلى الله وهذا يوم الجمعة وهو أبرك أيام الأسبوع فيه دعوة مستجابة ونحن في أبر موضع فالسلطان يغتسل ويتصدق بصدقة خفية بحيث لا يشعر أحد أنها منه ويصلي بين الأذان والإقامة ركعتين يناجي فيهماربه ويفوض مقاليد أموره إليه ويعترف بالعجز عما تصدق له فلعل الله يرحمه ويستجيب دعاءه. وكان حسن العقيدة تام الإيمان يتلقى الأمور الشرعية بأكمل انقياد. ثم انفصلنا فلما جاء وقت الجمعة صليت إلى جانبه في الأقصى فصلى ركعتين ورأيته ساجداً وهو يذكر كلمات ودموعه تتقاطر على مصلاه ثم انقضت الجمعة بخير ولما كانت عشيتها ونحن في خدمته على العادة وصلت رقعة من جرديك وكان في اليزك وكان جملة ما فيها أن القوم ركبوا بأسرهم ووقفوا في التل وقت الظهيرة ثم عادوا إلى خيامهم وقد سيّرنا جواسيس تكشف أخبارهم. ولما كانت صبيحة السبت وصلت رقعة أخرى يخبر فيها أن الجواسيس رجعوا وأخبروا أن القوم اختلفوا في الصعود إلى القدس وقالوا نحن إنما جئنا من بلادنا بسبب القدس ولا نرجع دونه. وقال الأنكتار إن هذا الموقع قد أفسدت مياهه ولم يبق حوله ماء أصلا فمن أين نشرب فقالوا له نشرب من نهر نقوع بينه وبين القدس مقدار فرسخ فقال كيف نذهب إلى السقي فقالوا ننقسم قسمين قسم يركب إلى السقي وقسم يبقى على البلد في المنازلة ويكون الشرب في اليوم مرة فقال الأنكتار: إذاً يؤخذ العسكر البراني الذي يذهب مع الدواب ويخرج عسكر البلد على الباقين ويذهب دين النصرانية فانفصل الحال على أنهم حكموا ثلاثمائة من أعيانهم وحكم الثلاثمائة اثني عشر وحكم الإثنا عشر ثلاثة منهم وقد بانوا على حكم الثلاثة فما أمروا به فعلوه فلما أصبحوا حكموا بالرحيل فلم تمكنهم المخالفة وأصبحوا في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة راحلين نحو الرملة وعلى أعقابهم ناكصين ولله الحمد. ومضى عسكرهم شاكياً السلاح ولم يبق في المنزلة إلا الآثار ثم نزلوا الرملة وتواترت الأخبار بذلك فركب السلطان وركب الناس وكان يوم سرور وفرح. ولما فرغ بال السلطان برحيل العدو حضر رسول الكندهري يقول أن الأنكتار قد أعطاني البلاد الساحلية وهي الآن لي فأعد علي بلادي حتى أصالحك وأكون أحد أولادك فغضب السلطان لذلك غضباً عظيماً بحيث أنه كاد يبطش به فأقيم بين يديه فسأل أن يمهل ليقول كلمة أخرى فأذن له في ذلك فقال يقول إن البلاد في يدك فما الذي تعطيني منها فانتهزه وأقامه. ولما كان اليوم الثالث والعشرين حضر الرسول وكان جوابه أن يكون الحديث بيننا في صور وعكا على ما كان مع المركيس ثم وصل بعد ذلك الحاجب يوسف صاحب المشطوب من عند الإفرنج وذكر أن الأنكتار أحضره وأحضر الكندهري وأخلى المجلس وقال له قيل لصاحبك أنّا قد هلكنا نحن وأنتم والأصلح حقن الدماء ولا ينبغي أن تعتقد أن ذلك لضعف مني بل للمصلحة ولا تغتر بتأخري عن منزلي فالكبش يتأخر لينطح وأن يكون هو الواسطة بينهم وبين السلطان وأنفذ مع الحاجب شخصين يسمعان الكلام من المشطوب وكان ظاهر الحال الكلام في إطلاق بهاء الدين قراقوش وباطنه في معنى آخر وأخبر الحاجب أنهم رحلوا عن الرملة قاصدين يافا وأنهم على غاية الضعف والعجز عن قصد مكان آخر فاستحضر المشطوب من نابلس لسماع الرسالة وكان الجواب إلى الكندهري أن نعطي عكا ونصالحه على مال ويتركنا والأنكتار على بقية البلاد. وكان رحمه الله قد جعل في مقابلة عكا عسكراً خشية خروج العدو إلى النواحي التي تليها فلما كان الثاني والعشرون خرج العدو من عكا غائرين على ما يليها من البلاد والرساتيق فثارت عليهم الكمينات من الجوانب وكان قد شعر العسكر الإسلامي بخروجهم فكمن لهم فأخذوا منهم جماعة وقتلوا جماعة ولله الحمد. ولما كان يوم الجمعة السادس والعشرين من الشهر عاد رسولهم صحبة الحاجب يوسف وقد حمل رسالة يؤديها بحضور صاحبهم وهي أن الملك الأنكتار يقول إني راغب في مودتك وصداقتك وأنه لا يريد أن يكون فرعون بملك الأرض ولا يطن ذلك فيك ولا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الإفرنج كلهم وهذا ابن أختي الكندهري قد ملكته هذه الديار وسلمته إليك ليكون هو وعسكره تحت حكمك ولو استدعيتهم إلى الشنق سمعوا وأطاعوا ويقول إن جماعة من الرهبان المنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم وأنا أطلب منك كنيسة وتلك الأمور التي كانت تضيق صدرك مما كان يجري في المراسلة مع الملك العادل تركتها وأعرضت عنها ولو أعطيتني مقرعة أو خربة قبلتها. فلما سمع السلطان هذه الرسالة جمع أرباب الرأي وأصحاب مشورته وسألهم عما يكون الجواب لهذه الرسالة فما منهم إلا من أشار بالمحاسنة وعقد الصلح لما كان قد أخذ المسلمين من الضجر والتعب وعلاهم من الديون. واستقر الحال على هذا الجواب. إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان إن ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي وسيبلغك ما فعل معه وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهي القمامة وأما بقية البلاد فنقسمها فالساحلية التي بيدك تكون بيدك والذي بأيدينا من القلاع الجبلية يكون لنا وما بين العملين يكون مناصفة وعسقلان وما وراءها يكون خراباً لا لنا ولا لكم وإن أردتم قراها كانت وانفصل الرسول طيب النفس وذلك في ثاني يوم قدومه وهو الثامن والعشرون واتصل الخبر بعد وصول الرسول إليهم أنهم راحلون إلى عسقلان طالبون جهة مصر ووصل رسول من جانب قطب الدين بن قليج أرسلان يقول إن البابا قد وصل إلى القسطنطينية في خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وقال الرسول إني قتلت في الطريق اثني عشر فارساً. ويقول تقدم إلى من يستلم بلادي مني فإني قد عجزت عن حفظها فلم يصدق السلطان هذا الخبر ولم يكترث به. ولما كان التاسع والعشرون وصل الحاجب صاحب المشطوب ومعه جفري رسول الملك فقال إن الملك شكر إنعام السلطان وقال إن الذي أطلبه منك أن يكون لنا في قلعة القدس عشرون رجلاً وأن من سكن من النصارى والإفرنج لا يتعرض إليهم وأما بقية البلاد فلنا منها الساحليات والوطاة والبلاد الجبلية لكم. وأخبرنا الرسول من عند نفسه مناصحة أنه قد نزل عن حديث القدس ما عدا الزيارة ولكن يقول ذلك تصنعاً لضعفنا وأنهم راغبون في الصلح وأن الأنكتار لا بد له من الرواح إلى بلده وأقام يوم الاثنين سلخ الشهر وكان معه في هذه الدفعة بازيان هدية للسلطان فاستحضر الأمراء بأسرهم وشاورهم فيما يكون الجواب لهذه الرسالة وانفصل الحال على هذا الجواب وهو أن القدس ليس لكم فيه حديث سوى الزيارة فقال الرسول وليس على الزوار شيء يؤخذ منهم. فعلم من هذا القول الموافقة وأما البلاد كعسقلان وما وراءها فلا بد من خرابه فقال الرسول قد خسر الملك على سورها مالاً جزيلاً فقال المشطوب للسلطان المصلحة أن نجعل مزارعها وقراها في مقابلة خسارتها فأجاب وأن الدارون وغيره تخرب وتكون بلادها مناصفة. وأما باقي البلاد فتكون لهم من يافا إلى صور بأعمالها. ومهما اختلفنا في قرية كانت مناصفة. هكذا كان جواب رسالته وسار في يوم الثلاثاء مستهل رجب ومعه الحاجب يوسف وكان قد طلب رسولاً مذكوراً يحلفه إن استقرت القاعدة فأخر السلطان تسيير الرسول إلى حين استقرار القاعدة وأنفذ لهم هدية حسنة في مقابل هديتهم وما كان يغلب في الهدايا. كان عوده وقد مضى هزيع من ليلة ثالث رجب فحضر الحاجب ليلاً وأخبر السلطان الخبر وحضر الرسول في بكرة الخميس الثالث من رجب وأدى الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة العامرة وأي قدر لها في ملكك وعظمتك وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها وقد ترك القدس بالكلية فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها فأنت تترك له هذه البلاد ويكون الصلح عاماً فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال ويروج وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح ولا يمكنه مخالفتهم. فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى. وكان لعنه الله مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله الولي في أن يقي المسلمين شره فما بلونا أعظم حيلة ولا أشد إقداماً منه. ولما سمع السلطان هذه الرسالة أحضر الأمراء وأرباب الرأي من دولته وسألهم عن الجواب ما يكون فكا خلاصة الرأي هذا الجواب وهو: إن أهل أنطاكية لنا معهم حديث ورسلنا عندهم فإن عادوا بما نريد أدخلناهم في الصلح وإلا فلا. وأما البلاد التي سألها فلا يوافق المسلمون على دفعها إليه وإن كانت لا قدر لها. وأما سور عسقلان فيأخذ في مقابلة ما خسر عليه لدافي الوطأة وسير الرسول صبيحة الجمعة رابع رجب. ولما كان الخامس من رجب وصل ولده الملك الظاهر عز نصره وكان كثير المحبة له والإيثار لجانبه لما يراه فيه من أمارات السعادة وصفات الكفاءة وتوسم الملك فخرج السلطان إلى لقائه ولما كان السابع وصل الحاجب يوسف وحده وذكر أن الملك قال له لا يمكن أن نخرب من عسقلان حجراً واحداً ولا يسمع عنا في البلاد مثل ذلك. وأما البلاد فحدودها معروفة ولا مناكرة فيها وعند ذلك تأهب السلطان للخروج إلى جهة العدو وأظهر القوة وشدة العزم على اللقاء. ولما كان العاشر من رجب بلغ السلطان أن الإفرنج رحلوا طالبين نحو بيروت فبرز من القدس إلى منزلة يقال لها الجيب وكان قدوم الملك العادل من البلاد الفراتية في بكرة الحادي عشر فدخل الصخرة وصلى عندها ثم توجه يتبع السلطان. ثم إن السلطان رحل من الجيب إلى بيت نوبة وبعث إلى العسكر في القدس يحثهم على الخروج واللحاق به ولحقت السلطان في بيت نوبة فإني كنت تخلفت عنه ليلة الاستعداد ثم رحل في يوم الأحد الثالث عشر إلى الرملة ضحوة نهاره على تلال بين الرملة ولدّ فأقام بها بقية الأحد. ولما كانت صبيحة الاثنين ركب جريدة حتى أتى بازور وبيت جبرين فأشرف على يافا ثم عاد إلى منزلته وأقام بها بقية يومه وجمع أرباب مشورته وشاورهم في النزول على يافا واتفق الرأي على ذلك. ولما كان صباح الثلاثاء خامس عشرة رحل طالباً جهة يافا فخيم عليها ضحوة النهار ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً وكان طرف الميمنة على البحر وطرف الميسرة أيضاً على البحر والسلطان في الوسط وكان صاحب الميمنة الملك الظاهر أعز الله نصره وصاحب الميسرة أخاه الملك العادل والعساكر فيما بينهما. ولما كان السادس عشر من الشهر زحف الناس إليها واستحقروا أمرها استحقاراً عظيماً ثم رتب السلطان الناس للقتال وأحضر المنجنيقات وركبها على أضعف موضع في السور مما يلي الباب الشرقي وشرع النقابون في السور وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج واشتد الحزم والزحف فأخذ النقابون النقب من شمالي الباب الشرقي إلى الزاوية بطول البدنة وكان قد هدم المسلمون ذلك المكان في الحصار الأول وبناه الإفرنج وتمكن النقابون من النقب ودخلوا فلم يشك الناس في أخذ البلد في هذا اليوم هذا وأمر العدو في ازدياد وكان الملك قد توجه من عكا إلى بيروت وهذا الذي حمل السلطان على نزوله على يافا ثم انفصل ذلك اليوم عن قتال شديد قد ضرس العدو منه وظهر من العدو من الشدة والحمية والذب والمنعة ما أضعف قلوب الناس هذا والنقابون قد تمكنوا من النقب عليهم فما قارب الفراغ أخذ العدو في خسف النقب عليهم فخسفوه في مواضع عدة وخاف النقابون وخرج منهم جماعة وفتر الناس عن القتال وعلموا أن أمر البلد مشكل وأنه يحتاج إلى زيادة عمل في أخذه فعزم السلطان عزم مثله فأمر النقابين أن يأخذوا النقب في بقية البدنة من الرج إلى الباب وأمر المنجنيقات أن تضرب قبالة البدنة المنقوبة ففعلوا ذلك وأقام السلطان في تلك الليلة هناك إلى أن مضى من الليل ثلثه وعاد إلى الثقل وكان الثقل بعيداً عن البلد على تل قبالته وأصبحت المنجنيقات قد أقيم منها اثنان وأقيم الثالث في بقية النهار وأصبح السلطان على القتال والزحف فلم يجد من الناس إلا الفتور بسبب نصب المنجنيقات ظناً منهم أن المنجنيق لا يعمل إلا بعد أيام. ولما علم السلطان من الناس الفتور والتواكل حملهم على الزحف فالتحم القتال وتشتد الأمر وأذاقوا العدو مر الحرب فأشرف البلد على الأخذ واتفقت النفوس وطمعت في ذلك طمعاً شديداً وضعف العدو إلا أنه جرح من المسلمين جماعة من بالنشاب والزنبورك من البلد. ولما رأى العدو المخذول ما حل به أرسل رسولين نصرانياً وإفرنجياً يطلبان الصلح ويتحدثان فيه فطلب السلطان منهم قاعدة القدس وقطيعته فأجابوا إلى ذلك واشترطوا أن ينظر إلى يوم السبت الذي هو تاسع عشر رجب فإن جاءتهم النجدة وإلا تمت القاعدة على ما استقر فأبى السلطان الإنظار فعاد الرسول ثم رجعوا يسألونه الإنظار فأبى ذلك وفتر الناس عن القتال بسبب تواصل الرسل سكوناً إلى الدعة على جاري العادة فأمر السلطان النقابين بحشو النقب بعد انتهائه ففعلوا ذلك ووضعت النار فيه فوقع نصف البدنة وكان العدو قد عرف وقوع النار في النقب وعلم أن ذلك المكان يقع فعمد إلى أخشاب عظيمة وهيأها خلف ذلك المكان فلما وقع ذلك المكان التهبت النيران فمنعت من الدخول إلى الثلمة ثم أمر السلطان الناس فزحفوا وضايقوا القوم مضايقة عظيمة فلله درهم من رجال أقيال ما أشدهم وأعظم بأسهم فإنهم مع هذا كله لم يغلقوا لها باباً ولم يزالوا يقاتلون خارج الأبواب أعظم قتال حتى فصل الليل بين الطائفتين ولم نقدر على البلد في ذلك اليوم بعد حرق النقوب في باقي البدنة وضاق صدر السلطان لهذا الأمر وتقسم فكره وندم طيق لم يجبهم إلى الصلح وبات تلك الليلة في المخيم وقد عزم على أن يقيم تمام خمسة مناجيق تضرب بعضها البدنة الضعيفة بسبب النقوب والنيران والخسف من جانبهم. ذكر فتح يافا وما جرى فيه من الوقائع ولما كان يوم الجمعة ثامن عشر رجب أصبحت المنجنيقات وقد نصبت وحجارتها قد جمعت من الأودية والأماكن البعيدة لعدم الحجر في ذلك المكان وظلت ترمي البدنة المنقوبة وزحف السلطان وزحف ولده الملك الظاهر عز نصره زحفاً شديداً وزحف عسكر الملك العادل من الميسرة فإنه كان مريضاً وارتفعت الأصوات وضربت الكؤوسات وخفقت البوقات ورمت المنجنيقات وأحاط بهم الويل واشتد عزم النقابين في إيقاد النار فما مضى من النهار ساعتان إلا ووقعت البدنة وكان وقعها كوقع الواقعة ونادى الناس إلا أن البدنة قد وقعت فلم يبق من له أدنى إيمان إلا وزحف. ولا قلب من العدو إلا أرعد ورجف هذا الزحف وهم على القتال أشد وأحزم. وعلى الموت أعزم وأكرم. وذلك أنها لما وقعت علا لها دخان وغبار. وأظلم الأفق وعميت عين النهار. وما تجاسر أحد على الولوج خوفاً من اقتحام النار. فلما انكشفت الظلمة ظهرت أسنة قد نابت مناب الأسوار. ورماح قد سدت الثلمة حتى غيبت نفوز الأبصار. ولقد رأيت رجلين على ممشى السور يمنعان المتسلق عليه من جهة الثلمة وقد أتى أحدهما حجر المنجنيق فأخذه ونزل إلى داخل وقام رفيقه مقامه متصدياً لمثل ما لحق صاحبه في ساعة أسرع من لمح العيون بحيث لم يفرق بينهما فارق. ولما رأى العدو ما آل الأمر إليه سيروا رسولين إلى السلطان يلتمسون الأمان فقال رحمه الله الفارس بالفارس والتركبيلي بمثله والراجل بالراجل والعاجز على قطيعة القدس فنظر الرسول فرأى القتال على الثلمة أشد من إضرام النار فسأل السلطان أن يبطل القتال إلى أن يعود فقال لا أقدر على منع المسلمين من هذا الأمر ولكن ادخل إلى أصحابك فقل لهم يتجاوزون إلى القلعة ويتركون الناس يشتغلون بالبلد فما بقي دونه مانع فعاد الرسول بهذه الرسالة فانحاز العدو إلى قلعة يافا بعد أن قتل منهم جماعة عظيمة ودخل الناس البلد عنوة ونهبوا منه أقمشة عظيمة وغلالاً كثيرة وأثاثاً وبقايا قماش مما نهب من القافلة المصرية واستقرت القاعدة على الوجه الذي قرره السلطان. ولما كان عصر الجمعة المباركة وصل السلطان كتاب من قايماز النجمي وكان في طرف العدو لحمايته من عسكر العدو الذي كان في عكا يخبر فيه أن الأنكتار لما سمع خبر يافا أعرض عن قصد بيروت وعاد إلى قصد يافا فاشتد عزم السلطان على تتمة الأمر وتسلم القلعة ممن لا ير الأمان لأنه قد لاح أخذهم وكان الناس لهم مدة لم يظفروا من العدو بمغنم ونوبتهم عليه فكان أخذهم عنوة مما بعث همم العسكر غير أن الأمان وقع واتفق الصلح فكنت بعد ذلك ممن يحث على إخراج العدو من القلعة وتسلمها خوفاً من لحوق النجدة وكان السلطان يشتهي خروجه غير أن الناس قد أقعدهم التعب عن إتمام الأمر وأخذ منهم الحديد وشدة الحر ودخان النار بحيث لم تبق لهم استطاعة على الحركة وأقام السلطان يحثهم إلى أن هوى الليل فلما رأى ما قد نزل بالناس من التعب ركب وسار إلى خيمتي وعندي من الخوف ما أقلقني عن النوم. ولما كان سحر تلك الليلة سمعنا بوق الإفرنج قد نعق فعلمنا بوصول النجدة قد وصلت من البحر فاستدعاني السلطان من وقته وقال لا شك أن النجدة قد وصلت في البحر وعلى الساحل من عساكر الإسلام من يمنعهم من النزول والمصلحة أن تسير إلى الملك الظاهر وتقول له أن يقف بظاهر الباب القبلي وتدخل أنت ومن تراه إلى القلعة وتخرجون القوم وتستولون على ما فيها من الأموال والأسلحة وتكتبها بخطك إلى الملك الظاهر خارج البلد وهو يسيرها إلي ويسير معي لتقوية البلد مع ذلك عز الدين جرديك وعلم الدين قيصر ودرباس المهراني فسرت من ساعتي ومعي شمس الدين عدل الخزانة حتى أتيت الملك الظاهر وهو نائم على شليته على تل قريب البحر في اليزك وعليه كراغنده وهو بلأمة حربه فلا ضيع الله صنعهم في نصرة الإسلام فأيقظته فقام والنوم في عينيه وسرت في خدمته وهو يستفهم مني رسالة السلطان حتى وقف حيث أمره ودخلنا نحن إلى يافا وأتينا القلعة وأمر الإفرنج بالخروج فأجابوا إلى ذلك وتهيئوا للخروج. ولما أجابوا إلى الخروج قال عز الدين جرديك لا ينبغي أن يخرج منهم أحد حتى يخرج الناس من البلد خشية أن يتخطفهم الناس وكان الناس قد داخلهم الطمع في البلد وأخذ عز الدين يشتد في ضرب الناس وإخراجهم وهم غير مضبوطين بعد ولا محصورين في مكان فكيف يمكن إخراجهم وطال الأمر إلى أن علا النهار وأنا ألومه وهو لا يرجع عن ذلك والزمان مضى ولما رأيت الوقت كاد يفوت قلت إن النجدة قد وصلت والمصلحة المسارعة في إخراجهم والسلطان قد أوصاني بذلك فلما عرف السبب في حرصي أجاب إلى إخراجهم ومضينا إلى باب القلعة القريب من الباب الذي الملك العادل قائم عنده فأخرجنا تسعة وأربعين نفراً بخيولهم ونسائهم وسيرناهم ولما خرج هؤلاء اشتد الباقون وحدثتهم نفوسهم بالعصيان وكان سبب خروج من خرجوا أنهم استقلوا المراكب التي جاءتهم وظنوا أن لا نجدة لهم فيها ولم يعلموا أن الأنكتار مع القوم ورأوهم قد تأخروا عن النزول إلى علو النهار فخافوا أن يمتنعوا فيؤخذوا ويقتلوا فخرج من خرج ثم بعد ذلك قربت النجدة حتى صاروا خمسة وثلاثين مركباً فقويت نفوس الباقين في الحصن وظهرت عليهم أمارات العصيان ودلائله وخرج منهم من أجبرني بتشويش عزمهم وأخذا الطارقيات والجنوبيات وعلوا على الأسوار وكانت القلعة جديدة لم تشرف بعد فلما رأيت الأمر قد آل إلى ذلك نزلت من التل الذي كنت واقفاً عليه وهو ملاصق لباب القلعة وقلت لعز الدين جرديك وهو مع عسكره في الأسفل مع جمع من الأجناد خذوا حذركم فقد تغيرت عزائم القوم فما كانت إلا ساعة بحيث صرت خارج البلد في خدمة الملك الظاهر إلا وقد ركب القوم خيلهم وحملوا من القلعة حملة الرجل الواحد وأخرجوا من كان في البلد من الأجناد ولقد ازدحم الناس في الباب حتى كاد يتلف منهم جماعة وبقي في بعض الكنائس جماعة من أتباع العساكر مشتغلين بما لا يجوز فهجموا عليهم وقتلوا منهم وأسوا وسيرني الملك الظاهر إلى والده السلطان أعرفه بالحال فأمر الجاويش أن ينادي في العسكر وضرب الكؤوس للقتال ونفر الناس من كل جانب للغزاة وهجموا البلد وحشر العدو في القلعة فأيقنوا بالبوار واستبطأوا نزول النجدة إليهم وخافوا خوفاً عظيماً فأرسلوا بطركهم والقسطلان رسولان إلى السلطان يعتذران إليه مما جرى ويسألان القاعدة الأولى فخرجا إلى السلطان والقتال يشتد عليهم وكان سبب انقطاع النجدة أنهم رأوا البلد مشحوناً ببيارق المسلمين ورجالهم فخافوا أن تكون القلعة قد أخذت وكان البحر يمنع من سماع الصوت من كل جانب لكثرة الضجيج والتهليل. فلما رأى من في القلعة شدة الزحف عليهم وامتناع النجدة من النزول مع كثرتها فإنها بلغت نيفاً وخمسين مركباً منها خمسة عشر شانياً فيها شاني الملك علموا أن النجدة ظنت أن البلد قد أخذ ورهب واحد نفسه للمسيح وقفز من القلعة إلى الميناء وكانت رملاً فلم يصبه شيء واشتد عدواً حتى أتى البحر فخرج له شاني وأخذه إلى شاني الملك فحدثه بالحديث فلما شعر الأنكتار أن القلعة مع أصحابه اندفع يطلب الساحل وكان أول شاني ألقى من فيه بالبرشانية وكان أحمر ورقبته حمراء وبيرقه أحمر فما كانت إلا ساعة حتى نزل كل من في الشواني إلى الميناء هذا كله وأنا أشاهد ذلك ثم حملوا على المسلمين فاندفعوا بين أيديهم وأخرجوهم من الميناء وكان تحتي فرس فسقته إلى السلطان وأخبرته الخبر وبين يديه الرسولان وقد أخذ القلم بيده ليكتب لهم الأمان فعرفته في أذنه ما جرى فامتنع من الكتابة وشغلهم بالحديث فما كان إلا ساعة حتى فر المسلمون نحو السلطان فصاح في الناس فركبوا وقبض على الرسولين وأمر بترحيل الثقل والأسواق إلى بازور فرحل الناس وتخلف لهم ثقل عظيم مما كانوا نهبوه من يافا لم يقدروا على نقله ورحل الثقل وبقي السلطان جريدة في الليل وبات ليلته هناك وخرج الأنكتار إلى موضع السلطان الذي كان فيه لضيق البلد وأمر من في القلعة أن يخرجوا إليه معظم سواده فاجتمع به جماعة من المماليك وجرت بينهم أحاديث ومجاوبات كثيرة.
|