الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.ذكر قتل أبي مسلم الخراساني. كان أبو مسلم لما حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه ويتقدم بالإحسان للوفود وإصلاح الطريق والمياه وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه ولما صدروا عن الموسم تقدم أبو مسلم ولقيه الخبر بوفاة السفاح فبعث إلى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة ولا رجع إليه ولا أقام ينتظره فغضب أبو جعفر وكتب إليه وأغلظ في العتاب فكتب يهنئه بالخلافة ويقدم إلى فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأبى وقدم أبو جعفر وقد خلع عبيد الله بن علي فسرح أبا مسلم لقتاله فهزمه كما مر وجمع الغنائم من عسكره فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها فغضب أبو مسلم وقال: أنا أعين على الدعاء فكيف أخوان الأموال؟ وهم بقتل الخصيب ثم خلى عنه وخشى المنصور أن يمضي إلى خراسان فكتب إليه بولاية مصر والشام فأزداد نفارا وخرج من الجزيرة يريد خراسان وسار المنصور إلى المدائن وكتب إليه يستقدمه فأجابه بالإمتناع والمسك بالطاعة عن بعد والتهديد بالخلع إن طلب منه سوى ذلك فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط وأنه لا يحسن طاعة وبعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه ويسليه وقيل بل كتب إليه أبو مسلم يعرض له بالخلع وأنه قد تاب إلى الله مما جناه من القيام بدعوتهم وأخذ أبو مسلم طريق حلوان وأمر المنصور عمه عيسى ومشيخة بني هاشم بالكتاب على أبي مسلم يحرضونه على التمسك بالطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالمراجعة وبعث الكتب مع مولاه أبي حميد المرودوذي وأمره بملاينته والخضوع له بالقول حتى ييأس منه فإذا يئس يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلى غيري ولو خضت البحر لخضته وراءك ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت فأوصل أبو حميد الكتب وتلطف له في القول ما شاء واحتج عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلى هذا القول وقال والله لئن أتيته ليقتلنك ثم بعث إلى نيزك صاحب الري يستشيره فأبى له من ذلك وأشار عليه بنزول الري وخراسان من ورائه فيكون أمكن لسلطانه فأجاب أبا حميد بالإمتناع فلما يئس منه أبلغه مقالة المنصور فوجم طويلا ورعب من ذلك القول وأكبره وكان المنصور قد كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرغبه في الإنحراف عنه بولاية خراسان فأجاب سرا وكتب إلى أبي مسلم يحذره الخلاف والمعصية فزاده ذلك رعبا وقال لأبي حميد قبل انصرافه: قد كنت عزمت على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحق إلى أمير المؤمنين يأتيني برأيته فإني أثق به ولما قدم أبو إسحق تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يجب وداخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهه خراسان ووعده بولايتها فرجع إليه وأشار عليه بلقاء المنصور فاعتزم على ذلك واستخلف مالك بن الهيثم على عسكره بحلوان وسار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف وخشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك فدعا بعض إخوانه وأشار عليه بأن يأتي أبا مسلم ويتوسل به إلى المنصور في ولاية كسكر ليعيب فيها مالا عظيما وأن يشرك أخاه في ذلك فإن أمير المؤمنين عازم أن يوليه ما ورى به ويريح نفسه واستأذن له المنصور في لقاء أبي مسلم فأذن له فلقي أبا مسلم وتوسل إليه وأخبره الخبر فطابت نفسه وذهب عنه الحزن ولما قرب أمر الناس بتلقيه ثم دخل على المنصور فقبل يده وانصرف ليريح ليلته ودعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيل وأربعة من الحرس منهم شبيب بن رواح وابن حنيفة حرب بن قيس وأجلسهم خلف الرواق وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه واستدعى أبا مسلم فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمه عبد الله بن علي وكان متقلدا بأحدهما فقال: هذا أحدهما! فقال: أرني فانتضاه أبو مسلم وناوله إياه فأخذ يقلبه بيده ويهزه ثم وضعه تحت فراشه وأقبل يعاتبه فقال: كتبت إلى السفاح تنهاه عن الموت كأنك تعلمه: قال: ظننت أنه لا يحل ثم اقتديت بكتاب السفاح وعلمت أنكم معدن العلم قال فتوركك عني بطريق مكة! قال كرهت مزاحمتك على الماء قال فامتناعك من الرجوع إلي حين بلغك موت السفاح أو الإقامة حتى ألحقك! قال: طلبت الرفق بالناس والمبادرة إلى الكوفة! قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك! قال: لا إنما وكانت بها من يحفظها قال: فمراغمتك ومسيرك إلى خراسان قال: خشيت منك فقلت آتي خراساني وأكتب بعذري فأذهب ما في نفسك مني! قال فالمال الذي جمعته بحران! قال أنفقته في الجند تقوية لكم قال ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب آسية بنت علي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا ثم قال له: وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد نقبائنا من قبل أن ندخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلافة فقتلته ثم قال أبو مسلم: كيف يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة لو كانت أمه مكانك لأغنت إنما ذلك بدولتنا وربحنا أبو مسلم يقبل يده ويعتذر فازداد المنصور غضبا ثم قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت لا أخاف إلا الله فشتمه المنصور وصفق بيديه فخرج الحرس وضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه فقال: اسبقني لعدوك فقال: لا أبقاني الله إذا وأي عدو منك وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه بذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين وخرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس وقال: الأمير قائل عند أمير المؤمنين فانصرفوا وأمر لهم بالجوائز وأعطى إسحق مائة ألف ودخل عيسى بن موسى على المنصور فسأل عنه وأخذ في الثناء على طاعته وبلائه وذكر رأي الإمام إبراهيم فيه فقال المنصور: والله ما أعلم على وجه الأرض عدوا أعدى لكم منه هوذا في البساط فاسترجع عيسى فأنكر عليه المنصور وقال: وهل كان لكم ملك معه؟ ثم دعا جعفر بن حنظلة واستشاره في أمر أبي مسلم فأشار بقتله فقال له المنصور وفقك الله ثم نظر إليه قتيلا فقال له يا أمير المؤمنين عد خلافتك من هذا اليوم ثم دعا أبا إسحق عن متابعة أبي مسلم وقال تكلم بما أردت وأخرجه قتيلا فسجد أبو إسحق ثم رفع رأسه يقول الحمد لله أميت هو والله ما جئته قط إلا تكفنت ورفع ثيابه وأراه كفنه وحنوطه فرحمه وقال له استقبل طاعتك واحمد الله الذي أراحك وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر بن الهيثم على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله وقد كان أبو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب بخاتمي تاما فاعلم أني لم أكتبه فلما رآه كذلك فطن وانحدر إلى همذان يريد خراسان فكتب له المنصور بولاية شهرزور وكتب إلى زهير بن التركي بهمذان يحبسه فمر أبو نصر بهمذان وخادعه زهير ودعاه إلى طعامه وحبسه وجاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر فأطلقه زهير ثم جاءه بعد ذلك الكتاب بقتله فقال: جاءني كتاب عهده فخليت سبيله وقدم أبو نصر على المنصور فعذله في إشارته على أبي مسلم بخراسان فقال: نعم استنصحني فنصحت له وإن استنصحني أمير المؤمنين نصحت وشكرت واستعمله على الموصل وخطب أبو جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم وانسهم وافترق أصحابه وخرج منهم بخراسان رجل إسمه سنباد ويسمى فيروز أصبهبذ وتبعه أكثر الجيال يطلبون بدم أبي مسلم وغلب على نيسابور والري وأخذ خزائن أبي مسلم التي خلفها بالري حين شخص إلى السفاح وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يعرض إلى التجار وكان يظهر أنه قاصد إلى الكعبة يهدمها فسرح إليه المنصور جمهور بن مرار العجلي والتقوا على طريق المفازة بين همذان والري فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم ولحق سنباد بطبرستان فقتله بعض عمال صاحبها وأخذ ما معه وكتب إلى المنصور بذلك فكتب إليه المنصور في الأموال فأنكر فسرح إليه الجنود فهرب إلى الديلم ثم إن جمهور بن مرار لما حوى ما في عسكر سنباد ولم يبعث به خاف من المنصور فخلع واعتصم بالري فسرح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش فخرج من الري إلى أصبهان فملكها وملك محمد الري ثم اقتتلوا وانهزم جمهور فلحق بأذربيجان وقتله بعض أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور وذلك سنة ثمان وثلاثين.
|