الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال قسنطينة في طاعة السلطان: كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتقال الدولة حينئذ بإنقسامها كما مر فلما استبد السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ عن الشواغل صرف إليهم نظره وأوطأهم عساكره ثم نهض فجاء إثر الشورى منها وعقد لابنه أبي العباس عليها كما قلناه فلما كان بعد مهلكه من اضطراب أفريقية وتغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وتنازع رؤسائهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك ومساريه يقتعدون الأرائك ويتفقدون في المشي بين السكك المراكب ويهيئون في إيوانهم سبال الأشراف ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلب الأيام وضحكة الأهل الشمات حتى لقد حدثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة وأقاموا على ذلك أحوالا والدولة في التياثها فلما استبد السلطان أبو العباس بأفريقية وعمالاتها وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد الخادر في عرينه وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثبه بهم داخلوا حينئذ الاعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة واقتعاد مطية الخلاف والنفاق يفتلون بذلك في عزائمه وأرخى هو لهم حبل الإمهال وفسح لهم مجال الإيناس بالمعاونة والوعد رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة والاستقامة على الجادة فأصروا وازدادوا عنادا ونفاقا فشمر لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء ونهض من الحضرة سنة سبع وسبعين وسبعمائة في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل زناتة من استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم وأصهار أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد ووافقوا السلطان أياما ثم أجفلوا أمامه وغلبهم السلطان على رعاياهم من تحيزه وكانوا من بقايا بني يفرن عمروا ضواحي أفريقية مع ظواعن هوارة ونفوسة ومغراوة وكانت للسلطان عليهم مغارم وجبايات وافرة فلما تغلب المغرب على بسائط أفريقية وتنافسوا في الاقطاعات كانت ظواعن مر نجيزة هؤلاء في إقطاع أولاد حمزة فكانت جبايتهم موفورة ومالهم دثرا بما صاروا مددا لهم بالمال والكراع والدروع والأدم وبالفرسان منهم يستظهرون بهم في حروبهم مع السلطان ومع قومهم فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم وبعث رجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادة كانت تمدهم فخمد ذلك من عتوهم وقص من جناحهم إلى آخر الدهر ووهنوا له ثم عاد السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف على أولاد أبي الليل وزحفوا إلى الحضرة فاحتلوا بساحتها أياما وشنوا الغارات عليها ثم انفضوا عنها وخرج على أثرهم لأول فصل الشتاء وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة وجمع أولاد أبي الليل لمدافعة عنها وسرب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه وزحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثا ولجوا في عصيانهم وقاتلوه بجمع الأيدي على قطع نخيلهم وتسايلت إليه الرعية من أماكنهم وأسلموا أحمد بن القائد مقدمهم وإبنه محمد المستبد عليه لكبره وذهوله فخرج إلى السلطان واشترط ما شاء من الطاعة والخراج ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم في بعض وهموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبد على أبيه وكان السلطان سرح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد فلقيه محمد بنواحي ساحتها فبعث به إلى السلطان ودخل هو إلى القصبة وتملك البلد وتقبض السلطان على محمد بن القائد لوقته وسيق إليه أبوه أحمد من البلد فجعل معه واستولى معه على داره وذخائره.واجتمع المدد والكافة من أهل البلد عند السلطان وآتوه بيعتهم وعقد عليها لابنه أبي بكر وارتحل يغذ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه واحتمل أهله وما خف من ذخائره ولحق بالزاب وطير أهل توزر بالخبر إلى السلطان فلقيه أثناء طريقه وتقدم إلى البلد فملكها واستولى على ذخيرتها ابن يملول ونزل بقصوره فوجد بها من الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يعد لأعظم ملك من ملوك الأرض وأحضر بعض الناس ودائع كانت لهم عنده من نفيس الجواهر والحلى والثياب وبرؤوا منها إلى السلطان.وعقد السلطان على توزر لإبنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول وجعل إليه إمارتها واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وآتاه طاعته وعقد له على بلده وولاية حجابة ابنه بتوزر وأنزله معه وقفل إلى حضرته وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلبه على أمصار الجريد إلى التلول فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفل من عزمهم وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤملون منها ظفرا لما كان ابن يملول قد منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعدة وتبينوا منها عجزه وأنكفوا راجعين ووفد صولة على السلطان بعد أن توثق لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء ورجع إليهم فلم يرضوا بشرطه ونهض السلطان من الحضرة في العساكر الأولياء من العرب وأجفلوا أمامهم فأتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرات ووافقوه فيها ثم أجفلوا ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان والاشتراط له كما يشاء فتقبل ووسعهم عفوه وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان ومرضاته وهم على ذلك لهذا العهد.
|