الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
وهي على ضربين قد جرت عادة مشايخ الأدب وفضلاء الكتاب أنهم يكتبون إلى الأفاضل بالمسائل يسألون عنها: إما على سبيل الاستفهام واستماحة ما عند المكتوب إليه في ذلك وأما على سبيل الامتحان والتعجيز. ثم تارة يجاب عن تلك الأسئلة بالأجوبة فتكتب وتارة لا يجاب عنها بحسب ما تقتضيه الحال. وهذه رسالة كتبها الشيخ جمال الدين بن نباتة المصري إلى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي صاحب ديوان الإنشاء بالمملكة الشامية وقد بلغه أن بعض أهل الديوان نال منه وأن الشيخ شهاب الدين المذكور ناضل عنه ودافع فكتب إليه يشكره على ذلك ويسأل كتاب الديوان عن أسئلةٍ بعضها يرجع إلى صنعة الإنشاء وأكثرها يرجع إلى فن التاريخ. وقد بينت بعضها ونبهت عليه في مواضيعه في خلال هذا الكتاب وهي: لا يخرج الكره مني غير نائبة ولا ألين لمن لا يبتغي ليني! الاستفتاح ب " لا " تيمن ببركة الشهادة وهي ههنا مقراض يقطع من العيب المدة ويحسم المادة فحسم الله عن سيدنا الإمام العلامة القدوة شهاب الدين مكمل الآداب وملك الشعراء والكتاب شر كل عين حاسدٍ ولو أنها عين الشمس وحماه عن مد ألسنة ذوي الاغتياب والارتياب من الهمج والهمس وهيأ له أسباب الخير حتى يكون يومه فيه مقصراً عن الغد زائداً على الأمس واستخدام له الأقدار حتى تكون فرائض تقبيل أنامله العشر عندهم كفرائض الخمس وجعل ما يرد عنه العين من العيب - بعد شأنه عن متناول - وقاية عن اللمس حتى يكون المعنى بقول القائل: ولا عيب فيه غير أن علاءه إذا حددوه كان قد جاوز الحدا ولا عيب أيضاً في مآثر بيته سوى أنها يروي بألسنة الأعدا! وحتى يؤمن عليه القائل: ما كان أحوج ذا الكمال إلى عيب يوقيه من العين! ويقبل من الآخر قوله: شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ من شر أعينهم بعيب واحد! العبد يخدم بسلام ما روضة نقطها الجو بدر سحائبه وأفرغ عليها الأفق سفط كواكبه وامتد نوء الذراع لتدبيج سمائها وتأريج أرجائها وتخميش معاصم أنهارها المنشقة بأفنائها وصقال نسماتها السحرية ومغازلة عيونها السحرية وهوان الغالية بنفحاتها الشجرية تصرف دنانير أزهارها الصروف ويسل جدولهاعلى الهموم السيوف وتجذب حمائمها القلوب بالأطواق ويتشفع دوحها إلى النواظر بالأوراق قد ترقرق في وجناتها ماء الشباب وغني مطرب حمامها فما كل أرض مثل أرض هي الحمى وما كل نبت مثل نبت هو البان! يوماً بأبهج منه أشواقاً وأطيب منه انشقاقاً واتساقاً والطيبون للطيبات ولكل غيث نبات وما لذلك الغيث إلا هذا النبات. ونعود فنقول: لا أدري أأتعجب: على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب!! من قوم هم ما هم: شرب مناسب وطيب مكاسب قد أمكنتهم المعالي وطاوعتهم الأيام والليالي وخدمتهم جواري السعود وتطامنت لكل منهم مراقي الصعود كابر بسكون الجأش منحدر )( وكنت قد استجديت كلاً منهم ولكن بالكلام واستسقيت ولكن قطرة من غمام الأقلام: وأيسر ما يعطي الصديق صديقه من الهين الموجود أن يتكلما! " وليسعد النطق إن لم يسعد الحال " فضن وضن ما ضن واستعطف بنسيم الكلام غصن يرعاه فما عطف ولا حن وبخل بما رزقه الله فإن الفضيلة من الرزق وحرمني لذة ألفاظه التي إذا أدخلت في رق دخل حر البلاغة تحت ذلك الرق وهل هو البحر فكيف شح بمدة من مده والغيث ولا أقول: إن الذي حبسه إلا ما قسمه الله تعالى من الحظ عند عبده: فأعلى الله كلمة سيدنا العلامة في الدارين وشكر غني جود كرمه وكلمه الدارين " فهو " صاحب ديوانهم وحجة زمانهم فلقد وصفني بما يزيد على الجواب و شافهني من الشكر بما لا يتوارى من الرزق بحجاب وأمنني العز والزمان حرب ونصرني والأيام سيوف تتنوع من الضرب في كل ضرب وأعطاني كرمه والمحل محل وفي قلب الزمان دخل ونحلني شهدة إحسانه والأوقات كإبر النحل حتى عذرني في حبه من كان من اللائمين واهتديت من لفظه وفضله بقمرين لا يميل أحدهما ولا يمين وصلت من جاهه وماله بيدين إلا أن كلتيهما في الإعراض يمين. ويلومني في حب علوة نسوة جعل الإله خدودهن نعالها! وحرس الله سيدنا شهاب زمانهم كما حرس به سماء ديوانهم فلقد أسمعني من الشكر ما أربى على الأرب وجعلني كحاجب حين دخل على كسرى وهو واحد من العرب خرج وهو سيد العرب وهدتني أنواره وأنا أخبط من ليل القريحة في عشواء وجادت على أنواؤه وناهيك بتلك الأنوار من الأنواء ورفعتني ألفاظه ولكن على السماك برغم حسودي العواء وهذه قصائده في تتدارسها ألسنة الأقلام وتكتب بأنقاس الليالي على صفحات الأيام من كل بيت هو بيت مال لا ينقصه الإنفاق ولولا التقى لقلت: إنه البيت الذي أمر الله تعالى بحجة الرفاق من الآفاق فمتى أتفرغ لطلب مدحه وقد شغلني بمنحه ومتى أجاريه بامتداح وإنما مدحي له وما هو إلا من نداه وإنما معالية تمليني الذي أنا كاتبه! أم أتعجب ممن ثنيت عنان الثناء إليه وجلوت عرائس المدائح عليه وعاديت في تنضيد أوصافه الكرى وأنضيت بالقلم له في نهار الطرس وليل النقس من السير والسرى ومدحته بملء في اجتهدت في وصفه وكان سواء على أن أجهدت في وصفه أو اجتهدت فجازاني مجازاة السنمار وأوقعني من عنت عتبه في النار وجعل محاسني التي أدلي بها ذنوباً فكيف يكون الاعتذار: وكان كذئب السوء إذ قال مرةً لعمروسة والذئب غرثان مرمل: أأنت التي من غير سوء شتمتى فقالت: متى ذا قال: ذا علم أوّل فقالت: ولدت الآن بل رمت غدوة فدونك كلني لا هنالك مأكل! وحل هذا المترجم وتحقيق هذا الظن المرجم أنه بلغني أن جماعة من الذين استفتيتهم استنباطاً لفوائدهم والتقاطاً لفرائدهم لا تكليفاً لهم فيما لا يقوم به إلا الأقوى من الأقوام ولا يستنجد به في هذا الوقت إلا بأرباب صفحات السيوف لا أرباب قصبات الأقلام أرادوا الغض مني ونفي الإحسان عني وهيهات! أنا أبو النجم وشعري شعري هو الحمى ومغانيه وإنهم اجتمعوا بالميدان على حديثي وذكروا قديمي وحديثي وتسابقوا في الغيبة أفراس رهان واعجب كلا منهم أن يقول: هذه الشقراء في يدي وهذا الميدان ولاموا وعذلوا وهموا بالسب وفعلوا واستطابوا لحم أخيهم فسلقوه بألسنة حداد وأكلوا حتى تعدى ذلك إلى من جاد علي بالجواب وفعله إما جزاء للمدح وإما للثواب: فقلت لها عيثي جعار وجرري بلحم امريء لم يشهد اليوم ناصره! وما كان المليح أن يغري بي من سبق مدحه إلي ومن انتصر بعزه لنفسه فما انتصر لدي " وهذا لعمري جهد من لا له جهد " وما تخلوا هذه الأفعال: إما أن تكون مجازة على مدحه فأين الكرام وفضلهم والمنصفون وعدلهم أو ضناً أني عرضت بهم فيمن عرضت فأين ذكاء الألباء وأين عقله وهل تضن السماء أن يدأ تصل إليها والنجوم أن خلقاً تحكم عليها والذهب محروس لا يصدى جرمه والجوهر معروف لا يجهل حكمه ومن الذي تحدثه نفسه أن يجحد الشمس فضلها الطائل أو يحسن له عقله أن يقول: سبحان وائل كباقل " فقلت " أدركني ذلك اليوم ولما أمزق وأنجدني بكل لفظة هي أمضى من السهم وأرشق وأضوء من النجم وأشرق وما أعرف كيف صبري على هذا الحرب في صورة السلم وما أضنه أراد إلا أن يعلم قلبي الذي في يده الحكم كما علمه القلم وحيث قضى الحديث ما قضى ومضى الوقت وما كان إلا سيفاً في عرض العبد مضى: فكرت تبتغيه فصادفته على دمه ومصرعه السباعا فأنا أنشد الله تعالى هؤلاء السادة الغائبين أو القوم العاتبين هل يعرفون أن الذي عرضت به منهم قوم قد استولى عليهم العي بجريضه ونزل فيهم الجهاد بقضه وقضيضه وأصبح بابهم لهم كبستان بلاثمار وديوانهم على رأي أبي العلاء كديوان أبي مهيار لا يحسن أحدهم في الكتابة غير العمامة المدرجو والعذابة المعوجة والعباءة الضيقة والأثواب المفرجة ويتناول السلم باليمين وكتابه إن شاء الله تعالى بالشمال ومشى هذا على هذا ولكن على الضلال لو سئل أحدهم عن " البديع " في الكتابة لم يعرف من السؤال غير الترديد وعن " عبد الحميد " لزاد في الفكر ونقص: وعبد الحميد عبد الحميد و " الصاحب " لقال: إنه تبرقع بمجلسي و " الخوارزمي " لقال: سرج فرسي و " الفاضل " لقال: ها هوذا ذيل ملبسي. فأن كان الأمر كذلك ففيم الملام والتنفيذ: علقوا اللحم للبزا ة على ذروتي حضن ثم لاموا البزاة أن قطعت نحوها الرسن الوجه الحسن ههنا وجه المنصب وحجابه عن شين تلك الآثار وتخميش تلك الألفاظ. وإن كان غير ذلك فما مثلي مع من ذكرني إلا قول القائل: سافر بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا! فقيل له: بخلت الناس فقال: كذبوني بواحد. وهأنا فلتكذبوني بواحد ممن عرضت وصحيح ممن أمرضت وليبرز إلى مضجعة وليكن على يقين من مصرعه ولا يترك شيئاً من أدواته ولا يأتي إلا ومعه نادبته من حمائم همزاته. وأنا أقترح عليه من مسائل الكتابة بعض ما اقترحه الفضلاء ونبه عليه العلماء وإلا فما أنا أبو عذرته ومالك إمرته ولا يلوم إلا القائل: من تحلى بغير ما هو فيه فضحته شواهد الإمتحان! فإنه الذي نبتهي عليه وإن لم أكن ساهياً وذكرني الطعن وما كنت ناسياً حتى رميته من هذه المسائل في مجاهل لا يهتدي فيها بغير الذهن الواقد واقتحمت به في بحار لا يعصم منها جبل الفكر الجامد على أنها فيما أغفلت كالثمد من البحار واللمحة من النهار ولولا الاختصار لأتيت منها بالجمع الجم فلنحمد الله والاختصار فأقول: من كتب الورق واستنبطه ومن ختم الكتاب بالطين وربطه ومن غير طين الكتاب بالنشأ وضبطه ومن قال: أما بعد في كتابه ومن جعلها في الخطب وأسقطها في ابتدائته في المكاتبة وجوابه ومن كره الاستشهاد في مكاتبات الملوك بالأشعار وكيف تركها على ما فيها من الآثار ومن الذي أراد أن يكتب نثراً فجاء شعراً ومن وضع هذه الطرة في التقاليد واخترعها وما حجته إذ قدمها على اسم الله ورفعها ومن الذي باعد بين السطور ووسعها وكيف ترك بالتعاظم في كتبه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولميسعه من التواضع ما وسعها ومن استغنى بكتابة آية من كتاب الله عن الجواب ومن اكتفى ببيت من الشعر عما يحتاج من تطويله الكتاب ومن الذي عانى المترجمات ورتبها وأخفى ملطفات الجواسيس وغيبها ومن الذي سن البرد وبعثها في الملمات ومن حاكى شيئاً من ملك سليمان فاستخدم الطيور في بعض المهمات وما أوجز مكاتبة كتب بها عن خليفة في معنى وما أبلغ جواب وأوجزه أجاب به عن خليفة من لا سمى لا كنى ولم أرخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف لم يؤرخ بمولده أو غير ذلك من الأيام ومن الذي أمره الخليفة بكتابة معنى فارتج عليه الكلام ولقنه في المنام ومن الذي وصف برسالة طويلة شيئاً لم يصفه بنثار ولا نظام وكيف جاز للكاتب أن يكتب آية من الكتاب في لفظه يحسبها من لا يحفظ أنها من عنده لا من حفظه مثل قوله مع الرسول: ومن ههنا أكف القلم عن شوطه وأرفع عنه ما وضعه اللسان من سوطه خوفاً من الملال والصخب وكفى بالغرفة عن معرفة النهر. فإذا نشط هذا الكاتب من هذا العقال وتصرف في فنون هذا المقال وخرج من هذه الأسئلة خروج السيف من الصقال امتدت كف الثريا في هذا النسيان بمسح جبهته وحاء بجواب هذا النكث كما يقال: برمته وأماط لثامها وشمر عن أزهارها أكمامها - انقطعت الأطماع دون غايته وبسطت أيدي رسائل البلغاء لمبايعة رسالته بل أتته وحمل قلمه على أقلام فرسان الكلام سوداء رايته وبان هنالك ظلم العائب وحيفه فكان كمن سل لنحره سيفه وعذر على توالي التأنيب مؤنبه وكان يومئذ له الويل لا لمن يكذبه وامتاز هذا الفاضل بما تحدثه هذه فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب! والمسؤول من إحسان سيدنا أن يسد الخلل كيف ما وجده ويصلح الخطأ والخطل كما عودته منه وكما عوده فإنه أمير هذه الصناعة ونحن الرعايا وشيخ الفصاحة ونحن الفقراء الذين كم وجدنا في زواياه منها خبايا وما هذه الرسالة يد امتدت تسأل الحلم ما يسعها وهذه السطور إلا حبائل تتصيد من عوائده ما ينفعها ويرفعها. فأرخي عليها ستر معروفك الذي سترت به قدماً علي عواري! والله تعالى العالم أنها ةردت عن قلب مذهول عن حسن الإيقان معدد عليه نوائب الدهر بأنامل الخفقان مرمي بسهام الأعادي في قسي الضلوع غائص في بحر الهم وكلما رمت أن يلقي إلي در الكلام ألقى در الدموع: أبكي فتجري مهجتي في عبرتي وكأن ما أبكيته أبكاني! لا يدع لي الفكر في قلة " مصافاة " الإخوان وقتاً أستنبط فيه معنى ولا يفسح لي التعجب من أبناء الزمان لنقصهم أن أصحح نقداً ولا وزنا أجنح لسلم الأيام فكأني لحربها جنحتس وأقدح فكرتي في استعطاف الزمان فكأني فيه قد قدحت فلو قضى الله لي بالمنية من المنية لأرحت الزمان واسترحت: ولا فرق فيما بيننا غير أننا بمس الأذى ندري ومن مات لا يدري ولا بد لي أن أطلق هذه الصناعة طلاقاً قطعياً لا طلاقاً رجعياً وأجاهرها جهاراً حربياً لا جهاراً عينياً وأضع صعدة حملها من أدب عن بدني وأتولى قوس داله مع سهم بائها فما أصبت غير كبدي " كأنما القوس منها موضع الوتر " و " قلت اذهبي يا صبوتي بسلام " فماذا لقيت من آفاتها ومنيت به من الخوف في عرفاتها ومطرت لا من عوارض قطرها ولكن عوارض مرجفاتها: وإني رأيت في الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهبا! ومع هذا الحديث لم أشك أن أحداً سينتقد على تشبيهي وطرقه قديمة في استفتاح المكاتبة واستنجاح المخاطبة ويقول: تلك أمة قد خلت ودولة فاضلة أدبرت مثل ما أقبلت فكيف تبعها وترك طريقة فضلاء عصره وأبناء مصره فالجواب ما قاله القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله تعالى فما كان أسعد خاطره! وأكثر ذهب لفظه وجواهره!!: إني رأيت الشمس ثم رأيتها ماذا علي إذا عشقت الأحسنا! " وذكرت أن الاس عدره ونسيت أن الاس أفعالها ". انتهت إلى هذا الموضع والديك قد نعى بعيد الظلام وبلغ عن الصبح السلام والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح وميدان الغصون قد أصخب بمغنى الأطيار وشغب الريح ونسر السماء قد فر من الغداة وبازيها والنجوم قد حملت إلى ملحدها من الغرب على نعوش دياجيها والمجرة من الجوزاء عاطلة الخصر وخاقان الصبح قد حمل على نجاشي الظلام راية النصر. لا برح سيدنا معصوم الروية والارتجال مسجلاً بشجاعة اليراعة والحرب سجال محمود المواقف والمساعي " والنفس نقع والطروس مجال " والسلام.
ويختلف الحال فيها باختلاف الوقائع: فإذا وقعت للأديب ماجرية وأراد الكتابة بها إلى بعض إخوانه حكى له تلك الماجرية في كتابه مع تنميق الكلام في ذلك إما ابتداءً وإما جوابا عند مصادفة ورود كتابه إذ ذاك إليه. وهذه نسخة رسالة أنشأها الإمام قاضي قضاة المسلمين محيي الدين أبو الفضل يحيى ابن قاضي الإمام محيي الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن الحسين بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن القاسم بن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما ورد إلى القاهرة المحروسة في التاسع من جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين وستمائة وتعرف " برسالة النمس " وهي: وردت رقعة سيدنا أسعده الله بتوفيقه وأوضح في اكتساب الخيرات سبل طريقه فوقفت عليها وقوف السار بورودها المستسعد بوفودها المبتهل إلى الله في إبقاء مهجته التي يتشرف الوجود بوجودها: وليس بتزويق اللسان وصوغه ولكنه قد مازج اللحم والدما! وفضضتها عن مثل النور تفتحه الصبا وبرود الرياض تساهمت في اكتساء وشيها الأهضاب والربا يكبو جواد البليغ في مضمار وصفها وينبو غضب لسانه عن مجاراتها في رصفها يخجل محيا النهار بياض طرسها ويود الليل لو نفضت عليه صبغة نقسها وتحسد الكواكب رائق معانيها وتتمنى لو أعيرت فضل إرشاقها وتلايتها في كل فقرة روضة وكل معنى كأس مدام وكل ألف ساق وكل سين طرة غلام وكل واو عطفه صدغ وكل نون تقويس حاجب وكل لام مشقة عذار وكل صاد خطة شارب تصيب من سامعها أقصى ما يراد بالنفث في العقد وتستولي بلفظها على لبه استيلاء الجواد على الأمد. فلما اجتليت منها المعاني المسبهة في اللفظ الموجز وأجل الطرف منها ما بين نزهة المطمئن وعقلة المستوفز وأسلمت قيادي إلى سحرها المحلل وإن جنى قتل العاشق المتحرز - علمت أن سيدنا أجرى في حلبه السباق فحاز قصب سبقها وذللت له البلاغة فتوغل في شعابها وطرقها وحكمت يده في أعنة الفضائل فسلمت القوس إلى باريها ودرجات العلى إلى مستحقيها فمن وائل ومن سحبان ومن عبد الحميد وابن صوحان وأي خبر يقابل العيان ومن يقاوم ما هو كائن بما كان فسألت خاطري الجامد أن يعارض بوابله طلها وأن يقابل بجثمانه ظلها وأن يجاريها في حلبة المساجلة وإن دعي بالسكيت ولقد أسمعت لو ناديت حياً وكيف بنطق من ميت وأنى يطمع في مجاراة البحر ولات حين لعل أوليت فوجدته أصلد من الصخرة مساً وألفيت " باقلا " لديه " قسا " فما كل من طرق قرى ولا من إذا خلق فرى وهذا المعهود من خاطري إذا كان جاماً فكيف وقد نضب مأوه وكدرت الحوادث بحر علمه والغير فمن دون أن تستخرج منه الدرر أن يلين لضرس الماضع الحجر فبذل جهده لما شعبت الهموم سبله وتقنع بالخلق من لا جديد له. هذا مع واقعة وقعت له فأصبح متشتتاً وثنى عنانه عن كل شيء إليها متلفتاً وذلك أنه في بارحته استولى عليه القلق بسلطانه واستلبت يد الأرق كراه من بين أجفانه كأنه ساورته ضئيلة سمها ناقع أو مدت إليه خطاطيف حجن لها أيدي الخطوب نوازع: فتارة فكرته متوجهة نحو قلة حظه وآونة لا يقع إلا على ما يقذفه طارف لحظه وإن يد الخمول قد استولت عليه وأزمة المطالب صرفت عنه وحقها أن تصرف إليه والسعادة شاردة عنه وما أجدرها أن تطيف ببابه وتستقر بين يديه: لئن كان أدلى حابل فتعذرت عليه وكانت رادة فتحظت لما تركته رغبة عن حباله ولكنها كانت لآخر خطت!! ولقد جهد في سلم الدهر وهو يحاربه " وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه " فما شام بارقة أمل إلا أخفقت ورجع يخفي حنين وقرت أعين أعاديه كلما سخنت منه العين فلقد أصبح " أفرغ من حجام ساباط " وإن كان " أشغل من ذات النحيين ". وكلما تأمل جده العاثر الناكص ونظر رزقه الناضب الناقص وقابله الدهر بالوجه العابس الكالح ومنى نفسه عقبى يوم صالح ربع عليها فمن لي بالسانح بعد البارح وناجى نفسه بأعمال الركائب والاضطراب في المشارق والمغارب وأن يرى بالجود طلعة نائر بالعرمس غرة آئب ويصل التهجير بالسرى ويبت من قيد الأوطان موثقات العرى وإن كسدت فضيلة من فضائله أو رثت وسيلة من وسائله اكتسب بأخرى من أخواتها ونفث من عقدها ومت بها وقال: أنا ابن بجدتها فإلام وعلام وحتى متى أجاور من أنا فيهم أضيع من قمر الشتا وحالي وما أنا كالعير المقيم بأهله على القيد في بحبوحة الدار يرتع ثم استهول تقحم الإغوار والإنجاد واستفتح لقادح زناد الحظ الإكداء والإصلاد وأقول: أخظأ مستعجل أو كاد فأثوب مثاب من حلب الدهر أشطره وأخذ إذا ارتفع عن الدنية من حظه أيسره وبنى كما بنى سلفه وقرر ما قرره فأقول: أرفض الدنية ولا تلو عليها فتكون " أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها " " فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها ": ولسنا بأول من فاته على رفقه بعض ما يطلب وقد يدرك الأمر غير الأريب وقد يصرع الحول القلب! وتارة يخطر أن لو شكوت حالي إلى أصدقائي من ذوي الجاه وسألتهم بإلحاقي بهم في الابتغاء من فضل الله وأحضهم على انتهاز فرصة الإحسان قبل الفوت وأضرب لهم: " أعن أخاك ولو بالصوت " فليس على مثلي ممن يخيفه الدهر في ذلك من جناح " وهل ينهض البازي بغير جناح " ثم أرى أنهم لو فضل عنهم شيء لجادوا بل لو زويت الأرض لهم لازدادوا ولو ملكوا ظل الله لأصبحت لديهم ضاحياً وما حالي بخاف عليهم وكفى برغائها منادياً وقبلي بغى علي ففاته وأدرك الجد السعيد معاويا وإلى كم أعلل تعليل الفطيم بالخضاب: سئمت العيش حين رأيت دهري يكلفني التذلل للرجال! وأخرى يسلي نفسه عن مصابها ومصائبها وينميها كر الأيام بيعاقبها ويقص عليها تقلب الليالي بالأمم الماضية في قوالبها وأنها ما قدمت لأحد سعادة إلا عقبتها بتغيير وما سقت صفو الأماني بشر إلا شابت كأسه بتكدير وأن سبيل كل أحد منها سبيل ذي الأعواد وقصاراي ولو اتخذت الأرض مسكناً وأهلها خولاً سبيل رب القصر من سنداد ولو عمرت عمر نوح كنت كأني وآدم وقت الوفاة على ميعاد فإن شئت فارفع عصا التسيار أوضع فما هو إلا: " حارب بجد أودع ". فبينا أنا أعوم في هذه الخواطر متفكرا وأقرع سن الندم على تقضي عمري في غير مآربي متحسراً وأتسلى بمصارع الأولين آخرى متعبراً ولو أنجزتني الأيام مواعيد عرقوبة لأفضت بي إلى أحلى من ميراث العمة الرقوب ولقد تقاعس أملي حتى قنعت بحالي " وشر ما ألجاك إلى مخه عرقوبة " ثم يخاطبني حجاي بأن تثبت واصبر فالليل طويل وأنت مقمر فستبلغ بك الأسباب وينتهي بك إلى المقدور الكتاب فلا تعجل " فجري المذكيات غلاب ". فاستروحت إلى باب كان مرتجاً وارتدت باستجلاء محيا السماء من بعض همي فرجاً وانتشقت من نسيم السحر ما وجدت به من ضيق فكري مخرجاً ففتحته عن شباك كتخطيط الأوفاق أو كرقعة شطرنج وضعت بين الرفاق ألبس من صبغة الليل شعاراً واتخذ لاستجلاء وجه الغزالة نهاراً جلد على القيام والكد صبور على الحالين في الحر والبرد يحول جثمان المرء عما واراه ويبيخ إنسان الطرف رعي حماه يديل من ظلمة الليل ضوء النهار وينمو بما استودعته من الأسرار يشرف إلى غيضه قد التفت أشجارها وتهدلت ثمارها ورقصت أغصانها إذ غنت أطيارها واطردت بصافي الزلال أنهارها ونمت بعرف العنبر الشحري أزهارها وقد قامت عرائس النارنج على أرجلها تختال في حليها وحللها قد ألبست من أوراقها خلعاً خضراً وحليت من ثمارها تبراً ونظم قداحها في جيادها لؤلؤاً رطباً ورنحها نسيم السحر فمالت عجباً وقد مدت في أرضها من البنفسج مفارش سندس فروزت بالجداول كبساط أخضر سلت أيدي القيون عليه صقيلات المعاول وقد حدقت عيون الرقباء من النرجس قائمة على ساق ولعبت بها يد النسيم فتمايلت كعناق المحبين عند الفراق فاجتليت محياً وسيماً تتبلج أسرته ومنظراً جسيماً تروق بهجته قد مد السماط بساطاً أزرقاً بزهر الكواكب مشرقاً وطرزه بالشفق طرازاً مذهباً وأبدى تحته للأصباح مفرقاً أشيباً: ورث قميص الليل حتى كأنه سليب بأنفاس الصبا متوشح ورقع منه الذيل صبح كأنه وقد لاح شخص أشقر اللون أجلح وجنح البدر للغروب فتداعت الكواكب تتبعه كوكباً فكوكباً فكأنه ملك اتخذ المجرة عليه مضرباً وتوج بالثريا إكليلاً وخنست الكواكب بين يديه توقيراً له وتبجيلاً واصطفت حوله خدماً وجنوداً ونشرت من أشعتها ألويةً وبنوداً وأخذت مقاماتها في مراكزها كجيوشٍ عبئت للقاء مناجزها ومسابقها أخذ فصة النصر ومناهزها: ولاح سهيل من بعيد كأنه شهاب ينحيه عن الريح قابس! وانبرى نسيم السحر عليلاً وجر على أعطاف الأزهار ذيلاً بليلاً وروى أحاديث الرياض بلسان نشره مذيعاً لأسرار خزاماه وزهره وغردت خطباء الطير على منابر الأغصان واستنبطت من قلوب المحبين دفائن الأشجان وحث داعي الفلاح طائفة التقى والصلاح على أن تؤدي فرضها ونفلها وترتقي بخضوعها بين يدي مولاها درجات السعادة التي كانت أحق بها وأهلها وهتف بشير النجح بمن أحيا ليلته لما تمزق قميص الليل وانفرى: " عند الصباح يحمد القوم السرى ". فبينا أنا أتفكر في أن جملة ما عاينته سيصبح زائلاً وعن تلك الصبغة العجيبة حائلاً وأتدبر: " ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً " إذ أهدت إلي الأيام إحدى طرفها وغرائبها وكبرى أوابدها وعجائبها فطرق سمعي من الشباك نبأة وتلتها وجبة تتبعها وثبة فاستعذت من كيد الشيطان المريد وقلت: أسعد أم سعيد وإذا بنمس قد فارق وجاره إلى جاري واختارني على الصحراء جاراً فارتضيته لجواري فولج مستأنساً ومرح بين يدي آنساً وأراني أحد كتفيه في الاسترسال ليناً والآخر بالتمنع شامساً فمد له الحرص على جوره حبائل مكره وشباكه ويد الغبش تحول دون قنصه وإمساكه وبقايا الظلام تقضي بتمنعه وتصد عن جعله من الوثاق في موضعه وأنا ملازمه ملازمة المعسر لرب الدين حتى يتبين الصبح لذي عينين. فلما خشيت على صلاتي الفوت عدلت إلى تأدية فرضها وتوجيهها بين يدي موجبها وعرضها فلما انفتلت من مصلاي وانصرفت على مناجاة مولاي برقت لي بارقة خيل إلي أنها صاعقة فقلت: أذر قرن الغزالة وإلا فلات حين ذبالة فقيل: إن الغلام نظر إليه شزراً وهز له المهند فشق له من الظلماء فجراً وأبدى له وجهاً مكهفراً ورام أن يمطيه من المنية مركباً وعراً كأنه قد لاقى أسداً هزبراً وأترع له كأس الحمام بالوافي ورماه بثالثة الأثافي فعطفت عليه باللائمة منكراً لجهله وهتفت به زاجراً عن قبح فعله ثم عذرته: " ومن لك بأخيك كله " وقلت له: ماذا تراك تصنع لو لاقيت أسداً أغلبا لقد خلت أنك ترتد - وإن كنت وليداً - أشيبا أمن هذا بادرات إلى السيف مخترطا " إنك لأجبن من المنزوف ضرطا " لقد أظهرت من الفشل ما جاوز قدر الحد ووضعت المزاح في محل الجدة وقابلت الأسهل بالأشد فسحقاً لك وبعداً لقد قدح مرجيك بعدها زناداً صلداً واستنبع الماء جلمداً جلداً. فصوب طرفه في وهتف مناديا وأظهر وفاء أزرى بالسموءل بن عاديا: أنج هرباً ولا أخالك ناجياً إني رميت من الخطوب بأصعبها ولا ينبئك بالحروب كمجربها والخاص باللقمة أخبر بها فلقد أوطأني ما لا أستقيل منه العثرة وما لاقيت في حرب كهذه المرة والعوان لا تعلم الخمرة لقد صرح لي بالشر ولم يجمجم وكشر عن أنيابه غير مبتسم و " وحسبك من شر سماعه " و " است البائن أعلم " تالله إنه لأجرأ من خاصي الأسد ولئن سبرته لتعلمن ما بينالذئب والنقد ولقد رضيت نفسي من الغنيمة أن تؤب بذمائها لما تشبث بخنصري فخضبها بدمائها فقلت: " أجفل عن جنابك الخير وأجلى " " أضرطاً وأنت الأعلى " ثم تضاحكت إليه لما شاهدت استعباره وأويت له إذ رأيت استكثاره الخطب واستكباره وقلت: من ضاف الأسد قراه أضفاره ومن حرك الدهر أراه اقتداره وعدلت إلى الذلول الشامس المستأسد المستأنس وودت إليه فانقاد لها طَائعاً وخضع لإجابة دعوتي سامعاً. فلما حازه في القبضة الإيسار وبطل الإقلال من ذلك اللفظ والإكثار - وقد كان أعز من الأبلق العقوق وأبعد من بيض الأنوق - استجليت صورته متأملاً إذ لم يبق له سوى قبضتي موئلاً فرأيت هامة فحمة وجثة ضخمة وشدقاً أهرتاً رحباً ذا مرة على اختلاف الحوادث صعباً وإنياباً محددة عصلاً كالنصال وطرفاً مخالساً غير غر بالمكر والختال كأنه شهاب يتوقد أو شعلة نار لم تخمد وسامعتين تتوجسان ما دار في الأوهام وتدركان ما يناجي به المرء نفسه ولو في الأحلام قد نيطت بعنق صغرت هامتها بالنسبة إليه إن استدبرته قلت: هو مشرف عليها أو استقبلته قلت: هي مشرفة عليه يشتمل على نحر خصيب وصدر رحيب فيه نزعتا بياض كهلالين قرنا في نسق أو نجمي ذؤابة ظهراً في غسق تسر نفس الناظر إليها ويعقد خنصر الاختيار فيحسن الشيات عليها اتصل ذلك بمنكب عتيب وساعد شديد وبرثن شثن ومخلب حديد: ذوات أشاف ركبت في أكفها نوافذ في صم الصخور نواشب معقفة الترهيف عوج كأنها تعقرب أصداغ الحسان الكواعب قد جاور جؤجؤاً نهدا وقابل كاهلاً ممتداً يكاد خصره ينعقد اضطمارا وهمته تتسعر ناراً برجلين تسبق في الحضر يديه وتقد بأظفارها أذنيه وذنب كالراء المسبل يجره اختيالاً ومرحاً ويتيه عجباً وفرحاً إن انساب قلت: انساب أفعوان أو صال قلت: أسد خفان أو وثب سبق الوهم في انحطاطه أو طلب أدرك البرق من نشاطه أو طلب فات الطرف في انخراطه أنعم مساً من أرنب وأزهى من ثعلب قد كساه الظلام خلعته وقبل الصباح طلعته حاز من القندس صقاله وبهجته ومن الفنك لينه ونعمته ألبس رداء الشباب ونزه عن تزوير الخضاب إن اختلس فما تأبط شراً او خاتل أزرى بالشنفرى مكراً أحد نفساً من عمرو بن معدي لا يصلد قادح زناد بطشه ولا يكدي أنزق من أبي عباد وأصول من عنترة بن شداد أفتك من الحارث بن ظالم وأنهر فصداً للدم من حاتم لا يلين ولا يشكو إلى ذي تصميت " كأنه كوكب في إثر عفريت " يكاد عند المخاتلة في انسيابه يفوت الخاطر أو يخرج من إهابه أن قارن طيراً أباحه منسراً كمنسر الأسد أغلب فيه شغاً كأنه عقد ثمانين في العدد فينشده: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي فلا يحس له بعين ولا أثر سجيس الليالي فكأن قلوبها رطباً ويابساً لدى وكره العناب والحشف البالي اعتاد قنص السانح والبارح فما فات ورد المنية منه غاد ولا رائح طويل القرا مدمج الأعظم له مخاتلة سرحان وهجمة ضيغم أحن من نقبه " وأضلم من حية " أطيش من فراشة وأسبق إلى الغايات من عكاشة أخطف من عقاب وأشجع من ساكن غاب أسرق من جر 1 وأنوم من فهد وألين من عهن وأخشن من قد بأسه قضاء على الطير منزل وبطشه ملك بآجالها مرسل. فلما تأملت خلقه وسبرت بتجربة الفراسة خلقه عجلت له جريراً مستحصد المرة لوثاقه وأحكمت شده في محل خناقه وقلت له: إني مجربك سحابة هذا النهار " ومن سلك الجدد أمن من العثار " فعل ذي خبرة بمكره وعلى ثقة من غدره فإن اللئيم ذو صولة بعد الخضوع وفضح التطبع شيمة المطبوع وكيف الثقة به وإن استقر ولم ينبس وأنى الطمأنينة إليه وهو الأزرق المتلمس. ثم انصرفت إلى البلد لبعض شاني والاجتماع بأخلائي وأخذاني واستغرقت أديم النهار فيما توجهت له وقطعت عمر يوم ما كان أطوله! فلما قضيت نهمتي من نجعتي وحانت مع وجوب الشمس رجعتي ألفيته عمد إلى الوثائق فقرضه ووفاه بالكيل الوافي ما اقترضه وصال على شيخة نستسعد بدعائها ونفزغ إن دهمنا هم قبل نداء أولي البطش إلى ندائها ذات خلق عظيم ومنطق رخيم وقلب رحيم ووجه ذي نضرة ونعيم إن قامت أحيت الليل بالسهر أو قرأت رأيتنا حولها زمراً بعدزمر إن حادثتها نطقت بالسحر محللاً أو تاركتها رأت الصمت على كثير من النطق مفضلاً تسر نفسك في حالة الصخب وتريك وجه الرضا في صورة الغضب فمد إليها يد العدوان وأطاع بأذاها أمر الشيطان ولم يرقب فيها إلا ولا ذمة وحملها فحملنا من أذاها غمة ومزق قشيب أثوابها وحكم مخالبه الحديدة في إهابها فعظم مصاب من حوت داري بمصابها. فلما وصلت رأيتها باكية ذات قلب مريض وجناح مهيض فسليتها بأن المصائب تلقاها الأبرار وترفقت بها إلى أن رقات تلك الأدمع الغزار وأوردت: " إن جرح العجماء جبار " وقلت: إيها لك وآها لقد ارتكبت خطة ما ألقيها بعذرك وأولاها!! " فلقد أنصف القارة من راماها " ثم آليت أليه برة لأوطئنه من الوثاق جمرة ولأقتض بهذه المرة تلك المرة وأتيته بسلسة تنبو أنيابه عن عجمها ولا تثبت شياطين مكره برجمها قد أبدع قينها الصنعة بإحكامها وأتى بالعجب في نظامها فلله هو ممن تحكم فيما يقطع الجلمد فجعله من اللطاقة يحل ويعقد فاستودعت عنقه منها أميناًلا يخفر وثيق ذمته ولا تتطرق الأوهام إلى تهمته مستحكم القوة في الشد فتغيظ تغيظ الأسير على القد ونظر إلي بطرف حديد وتذلل بعد بأس شديد وبصبص بذنبه فقلت: " أمكراً وأنت في الحديد ". فلما أيس من الخلاص تلوث: فلما تم ما ذكرته وأبدأته وأعدته وردت رقعة سيدنا على عقابيل هذه الوقعة التي وقعت وصدت عن الجواب ومنعت واقتضى بي الحال كتب هذه الخرافة وإن تشبثت بأذيال الجد فأخرجتها مخرج الهزؤ وإن دلت على حوز قصبات المجد ليعلم أن في الزوايا خبايا وإذا صح أن الأصول عليها تنبت الشجر " فأنا ابن جلا وطلاع الثنايا ". هذا: وإن أبقى قراع الخطوب في حدي فلولا " فالفحل يحمي شوله معقولا " ولقد تجمعت الخطوب علي من كل وجهة وأوب وطرقت الرزايا جنابي من كل صوب وجريت مع الخطوب كفرسي الرهان وما هممت بمقصد إلا سقط بي العشاء على سرحان وبكل حبل يختنق الشقي ولعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي والجلد يرى عواقب الأمور فيحمد عند النجاح عقبي السير " ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير ". تجوز المصيبات الفتى وهو عاجز ويلعب صرف الدهر بالحازم الجلد فسطرت هذه الأحرف إلى سيدنا ليوافق خبري عند أصحابه خبره و " من يشتري سيفي وهذا أثره " واعلم أنها سيضرب بها في بابها المثل وقد " أوردها سعد وسعد مشتمل ". وهذه رسالة في الشكر على نزول الغيث من إنشاء أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال الغافقي الأندلسي نقلتها من خط الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري المصري وهي: الحمد لله الذي لا يكشف السةء سةاه ولا يدعو المضطر إلا إياه ننزل فقرنا بغناه ونعوذ من سخطه برضاه ونستغفره من ذنوبنا: وأشهد أن ل إله إلا الله وحده لشريك له إلهاً علا فاقتدر وأورد عباده وأصدر وبسط الرزق وقدر وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بشر وأنذر ورغب وحذر وغلب البشرى على الإقناط ودل على الصراط وأشار إلى الساعة بالأشراط ولم يأل أمته في الذب والاحتياط صلى الله عليه وعلى الوزراء الخلفا والبررة الأتقيا والأشداء الرحما والأصحاب الزعما صلاة تملأ ما بين الأرض والسما وتوافيهم في كل الأوقات والآنا وتضع الثناء موضع الثنا. ولما لقحت حرب الجدب عن حيال وأشفق رب الصريحة والعيال وتنادى الجيران للتفرق والزيال وتناوحت في الهبوب ريحها الجنوب والشمال وتراوحت على القلوب راحتا اليمين والشمال وأحضرت أنفس الأغنياء الشح وودوا أن لا تنشأ مزنة ولا تسح وتوهم خازن البر أن صلعه يعدل صاع الدر وخفت الأزواد وماجت الأرض والتقيت الرواد وانتزعت العازب القصي فألقت العصي وصدرت بحسراتها وقد أسلمت حزراتها وأصبحت كل قنة فدعاء وهضبة درعاء " صفاه وهما ونقبا وهما " والصبح في كل أفق قطر أو قطع والأرض كلها سيف ونطع والشعر يشمر ذيله للنفاق ويضمر خيله للسباق وجاء الجد وراح الهزل وقلنا: هذه الشدة هذا الأزل وللمرجفين في المدينة عجاجة ظنوها لا تلبد وقسي نحو الغيوب تعطف وتلبد فما يسقط السائل منهم إلا على ناب يحرق وشهاب يبرق حتى إذا عقدوا الأيمان وأخذوا بزعمهم الأمان وقالوا: لا يطمع في الغيث وزحل في الليث فإذا فارق الأسد لكد ما أفسد: تخرضاً وأحاديثاً ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب! أنشأ الله العنان وقال له: كن فكان فبينما النجوم دراريها الأعلام وأغفالها التي لا تحمد عندهم ولا تلام قد لختلط مرعاها بالهمل ولم تدر السدة بالحمل ولا علم الجدي بالرئبال ولا أحس الثور بالرامي ذي الشمال إذ غشيتها ظلل الغمام وحجنتها أستار كأجنحة الحمام وأخذت عليها في الطروق مصادر الغروب والشروق فما منها إلا مقنع بنصيف أو مزمل في نجادٍ خصيف لم تترك له عين تطرف ولا ثقبة يطلع منها أو يشرف فباتت بين دور متداركة السقوط ودرر متناثرة السموط وديم منحلة الخيوط وجيوش منصورة الأعلام ثلبتة الأقدام وكتائب صادقة الهجوم صائبة الرجوم تطلب المحل ما بين التخوم والنجوم وما زالت ترميه بأحجاره وتحترشه في أحجاره وتغزوه في عقر داره حتى عفت على آثاره وأخذت للحزن والسهل بثاره. فيا أيها المؤمن بالكواكب انظر إلى الديم السواكب واسبح في لجج سيولها وارتح في ممر ذيولها وسبح باسم ربك العظيم الذي قذف بالحق على الباطل وأعاد الحلي إلى العاطل فبرود الظواهر مخضرة وثغور الأزهر مفترة ومسرات النفوس منتشرة والدنيا ضاحكة مستبشرة وأرواح الأدواح حاملة وأعطاف الأغصان مائلة وأوراق الأوراق تفصل وأجنحة الظلال تراش وتوصل وخطباء الطير تروي وتخبر وشيوخ المحارب تهلل وتكبر وإن من شيء إلا يخضع لجبروته ويشهد لملكوته وتلوح الحكمة ما بين منطقة وسكوته. فأما الخطاطيف فقد سبق هاديها ونطق شاديها وتراجع شكراً لله ناديها فعش يرم ولبنة إلى أخرى تزم وشعث يلم وبدأة توفى وتتم وكأنها حنت نحو المشاهد وسابقت اللقالق إلى المعاهد فظلت اللقالق بعدها نزاعاً وسقطت على آطامها أوزاعاً وأجدت إقطاعاً وأجابت من الخصب أمراً مطاعاً وحازت من الحدائق والبساتين إقطاعاً وسيغرد في روضته المكاء ويضحكه هذا الوابل البكاء ونرومه فلا تلحظه ذكاء تحته من الأفنان الناعمة قلاص وأحصنته من الخضراء التبعية دلاص فالويل لأهل الأقوال المنكرات والنيل لأهل الثناء والخيرات والمرعى والسعدان وأرض بكواكب النور تزدان وبقاع تدين الغيث كما تدان أذكرها فذكرت وسكرت من أخلاقه فشكرت وعرفها ما أنكرت كأنما أعدؤها من أم خارجة نسب أو ملح قالت لها: خطب فقال: نكح فمثلت الأزهار بسبيله ونبتت في مسيله وثبتت في مسيله وثبتت كاللحظة في شطي خميله. فمن نرجس ترنو الرواني بأحداقه وتستعير الشمس بهجة إشراقه ويود المسك نفحة انتشاقه يحسد السندس خضرة ساقه ويتمناه الحمام بدلاً من أطواقه كحلة ندى تترقرق أو غصن بان لا يزال يورق. ومن عرار تغنى مطالعه على عرار وكلفت به السواري والغوادي كلف عمرو بعرار فجاء كسوالف الغيد ترف وكوميض الثغور يعبق ويشف. ومن أقحوان جرى على الثنايا الغر وسبك من ناصع الدر يقبله النسيم فيعبق ويصبح الجو بما " ويغبق ويستقبله ناظر الشمس فيشرق. ومن بنفسج كأطواق الورق أو كاليواقيت الزرق تشرف بأبدع الخلق وتألف من الغسق والخلق تلحظه من بين أوراقه نواظر دعج بالأجفان وقيت وبدموع الكحل سقيت نسيمه ألين من الحرير ونفسه أعطر من العبير يفاخر به كانون البرد مفاخرة نيسان بالورد. وكل ربوة قد أخذت زخرفها وازينت وبينت من آيات الله ما بينت كما تتوج في إيوانة كسرى واستقبلته وفوده تترى وانقلبت عن حسن ناديه لنواظر حسرى وكل تلعة مذانب نصولها تسل ومضارب فصولها لا تثنى وأراقم تنساب ولجين يدأب ويذاب على حافاتها نجوم من النور مشتبكة وجيوب عن لبات الغواني منتهكة فلو افتتحت الظهور والبطون فشكرا لربنا شكراً وسحقاً للذين بدلوا نعمة الله كفراً اللهم بارئ النسم ودارئ القسم وناشر الرحمة والنعم ومنزل الديم وباعث الرمم ومحيي الأمم فإنا نؤمن بقدرك: خيره وشره ونطوي غيثك على غره ولا نتعرض لنشره حتى تأذن بنشره ونعتقد ربوبيتك كل الاعتقاد ونبرأ إليك من أهل المروق والإلحاد ونستزيدك من مصالح العباد ومنافع البلاد رزقنا لديك ونواصينا بيديك وتوكلنا عليك وتوجهنا إليك ولا نشرك بك في غيبك أحداً ولا يجد عبد من دونك ملتحداً تباركت وتعاليت وأمت الحي وأحييت الميت لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت فاكفنا فيمن كفيت وتولنا فيمن توليت إنك تقضي ولا يقضى عليك وتقرأ: وهذه نسخة رسالة كتب بها الصاحب فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس تغمده الله برحمته إلى الشيخ بدر الدين البشتكي عندما زاد النيل الزيادة المفرطة سنة أربع وثمانين وسبعمائة وهي: ربنا اجعلنا في هذا الطوفان من الآمنين وسلام على نوح في العالمين. ما تأخير مولانا بحر العلم وشيخه عن رؤية هذا الما وما قعادة عن زرقة هذا النيل الذي جعل الناس فيه بالتوبة كالملائكة لما غدا هو أيضاً كالسما وكيف لم ير هذا الطوفان الذي استحال للزيادة فما أشبه زيادته بالظّما فهي كزيادة الأصابع الدالة في الكف على نقصه وأولى أن ننشد بيت المثل بنصه: طفح السرور علي حتى أنه من عظم ما قد سرني أبكاني! فإنه تقارب أن يمتزج بنهر بل وصل وامتزج وأردنا من عجائبه ما حقق أنه المعني " بقول القائل ": " حدث عن البحر ولا حرج " وتجاوز في عشر الثلاثين الحدّ وأردنا بالمعاينة في كل ساجلٍ منه ما سمعناه عن الجزر والمدّ وأساء في دفعه فلم يدفع بالتي هي أحسن وأقعد الماشي عن التسبب والحركة حتى شكا إلى الله في الحالين جور الزمن وسقى الناس من ماء حياته المعهودة كما شربوا من الموت أصعب كاس وسئل ابن أبي الرّدّاد عن قياس الزيادة فقال: زاد بلا قياس امتلأ اليباب وهال العباب وضاع العدُّ واختلط الحساب كال فطفّف وزار فما خفف غسل الجسور وأعاد الإملاق بعزمه إلى البحور وبرع فكان أولى بقول الحلّي من ابن منصور: بمكارم تذر السَّبَاسِبَ أبحراً وعزائم تذر البحار سباسبا! جمع في صعوده إلى الجبال بين الحادي والملاح ودخل الناس إلى أسواق مصر وخصوصاً سوق الرَّقيق على كلِّ جاريةٍ ذات ألواح وغدا التَّيَّار ينساب في كلّ يمّ كالأيم وأصبحت هضاب الموج في سماء البحر وكأنّما هي قطع الغيم واستحالت الأفلاك فكلّ برج مائيّ وتغيرت الألوان فكلّ ما في الأرض سمائيّ وحكى ماؤه حكاكة الصّندل لمّا مسّه شيطان الرّيح فتخبّط وزاد فاستحال نفعه فتحقّق ما ينسب إلى الصّندل من الاستحالة إذا أفرط فلقد حكت أمواجه ودوائره الأعكان والسّرر وغدا كلّ حيٍّ ميِّتاً من زيادته لا كما قال المعرّي: حيّا من بني مطر وتحالى إلى أن أقرف الليمون الأخضر واحمرت عينه على الناس فأذاقهم الموت الأحمر ولقد صعب سلوكه وكيف لا وهو البحر المديد وأصبح كلّ جدول منه جعفراً ويزيد: فلست أرى إلا إفاضة شاخص إليه بعين أو مشيراً بأصبع! فلكم قال الهرم للسارين يا سارية الجبل وأنشد وقد شمّر ساقه للخوض: أنا الغريق فما خوفي من البلل وكم قال أبو الهول: لا هول إلا هول هذا البحر وقال المسافرون: ما رأينا مثل هذا النيل من هنا إلى ما وراء النهر وقال المؤرخون: لم ننقل كهذه الزيادة من عهد النهروان وإلى هذا الدهر. وكيف يسوغ لمولانا في هذه الأيام غير ارتشاف فم الخمور ولم لا يغير مذهبه يطيب على هذه الخلج بالسلسل والدور وكيف وكيف!! ولم لا يتخذ مولانا حمو النيل وبرده رحلة الشتاء والصيف وهو في المبادرة إلى علو المعالي وغلو المعاني وانتهاز الفرص في بلاغ الآمال وبلوغ الأماني: نعم: من قاسكم بسواكم قاس البحار إلى الثماد! أعلى الأنام في العلوم قدرا وإمام النحاة من عهد سيبويه وهلم جرّا وشيخ العروضيين على الحقيقة برّاّ وبحرا: وشيخ سيحون والني ل والفرات ودجلة وشيخ جيحون أيضاً وشيخ نهر الأبلة! أي والله: أقولها لو بلغت ما عسى: الطّبل لا يضرب تحت الكسا! لا مخبأ لعطر بعد عروس أنت أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس وأصلح إذا حدثت من صالح بن عبد القدوس وأشهى إذا هزلت من ابن حجاج إلى النفوس: ولو أن بحر النيل جاراك مازحاً وحقك ما استحلى له الناس زئداً! نعود إلى ما كنا فيه من وصف النيل وذكر حاله الذي أصبح كما قال ابن عبد الظاهر: كوجه جميل: فلو رآه مولانا وقد هجم على مصر فجاس خلال الدّيار ودخل إلى المعشوق فتركه كالعاشق المهجور لم يرمنه غير الآثار لبكى بعيني " عروة " وأوى من الرصد وقد تفجرت من صلد عيون النز إلى ربوة أورنا لروض " الجزيرة " وقد خلع حلاه وتخلخلت عرائس أشجاره على الحالين بالمياه والنخيل وقد قتلت ملاكها - حين فتك - بالأسف وجف أحمر ثمرها وأصفره فأرانا العناب والحشف و " الجيزة " وقد قلت لها: تباً لجارك النيل إذ أفسدك صورة ومعنى وسكن مغانيك فسقى ديارك بغير استثنا وقراها الغريبة وقد قلت لها حين أوت إلى أعالي الأرض هرباً من المياه واعتصمت بالجبل الغربي: لا عاصم اليوم من أمر الله - وكل سفينة وقد علت على وجه الماء وارتقت لارتقاء البحر إلى أن اختلطت بالسماء وقد قالت لها أترابها عند الفراق: إلا ترجعي وقلنا لها نحن على سبيل التفاؤل: يا سماء أقلعي والنيل تبدو عليه القلوع خافية فكأنها الخيام بذي طلوح وجار على الناس بطغيانه فكأنما هو أخو فرعون مصرا أو ابن طوفان نوح. فلقد طار النسر مبلول الجناح ودنا نهر المجرة من السكارى بالشخاتيت إلى أن كاد يدفعه من قام بالراح ونرجس البسايتن وقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم وفارق أحبابه من الرياحين ولم يبق له غير القلانس صديق وغير الماء حميم والورد وقد قيل له: مالك من آس وغضن البان وقد قيل له: طوبى لمن عانقك ولا باس والأسماك وقد ألجمهم العرق والقلقاس وقد شكا شكوى ابن قلاقس وابنه من الغرق والقصب بالجيزة وقد شرب ماء النز فهو بئس الشراب والقصب ببولاق لم ينجه من مشاهدة الغرق إلا كونه غاب والفارسي بالبساتين وقد ترجل ووقع فأرانا كيف تكسير الأقصاب وقيل للآس: عالج جيرانك بالغيطان فالناس بالناس وبادر إلى جبر ما كسر فالحاجة تدعو المكسور في الحالين إلى الآس. هذا وأنا مقيم بالروضة إذ زهت على سائر الرياض وسلم جوهر حصبائها من أكثر هذه الأعراض وإن اعتلت بالاستسقاء فهو عين الصحة كما ينسب السقم إلى العيون المراض أو كما قال المملوك قديماً من قصيدة في بعض الأغراض: وقائل: في لحاظ الغيد باقية من السقام وما ضمت خصورهم وفي النسيم فقلت: الأمر مشتبه عليك فالزم فأنت الحادق الفهم قلت الصيحيح ولكني بموجبه أقول: تلك دواة برؤها السقم! قد أحاط بها النيل إحاطة المراشف باللما فأشرقت ضياء بين زرقته فكأنها البدر في كبد السماء: بصحن خدٍّ لم يغض ماؤه ولم تخضه أعين الناس! متعطش مع هذا الطوفان لرياك متشوف وإن كنت مغازل النجوم الأرضية والسمائية يا بدر لرؤياك لكني يسليني أني ما نظرت إلى النيل إلا رأيتك من سائر الجهات ولا لمحت بيوت البحر ولا هممت بسرب الماء من عطشٍ إلا رأيت خيالاً منك في الماء! ولكن للعيان لطيف معنى له طلب المشاهدة الكليم! فهلم إلى التمتع برؤية هذا النيل الذي لم تر مثله العيون والنظر إلى سائر المخلوقات لعمومه وكل في فلك يسبحون فليس يطيب للتلميذ رؤية هذا البحر بغير رؤية شيخه ولا يلذ له التملي بمشاهدة هذا الفلك ما لم يشرق وجهه وذهنه ببدره ومريخه فما هذا الإهمال وليت شعري يا أديب تشاغلك بأي الأعمال أبالكتابة فلتكن في هذا النيل الذي هو كالطلحية بغير مثال أو بالنثر والنظم ففي هذا البحر الذي منه تؤخذ الدرر وفيه تضرب الأمثال ولقد ولد فيه الفكر للمملوك كيف تصادم الأكفاء وقهر الملوك للملوك فإنه لم يسمع في مملكة الإسلام ولا ورخ في عام من الأعوام بمثل هذه الزيادة الزائدة والجري على خرق العادة التي لا جعل الله بها صلة ولا منها عائدة وغاية ما وصل إليه في الماضي من عشرين: فضيق بسعته المسالك وأوجب المهالك وتطرق تطرق أهل الجرائم والفساد فقطع الطريق على السالك وأحوج مرات إلى الاستضحاء لا أحوج الله لذلك. ودليل ما شمل به من الفساد وما عامل به البلاد وأهل البلاد ما قاله أدباء كل عصر عندما أبيح للمسافر في مد عرضه القصر. فمن ذلك ما قاله مولانا القاضي الفاضل وما هو رحمه الله إلا بحر طفح دره فالله دره من رسالة: " ورود مثاله يتضمن نبأ سطوره العظيمة أمر طوفان النيل التي كأنها جداوله وأنه جاد لمؤمله بنفسه التي ليس في يده غيرها فيلتقي الله سائله. ومنها: " ولم يزل يجري لمستقر له ويضمه شيئاً فشيئاً إلى أن أدرك آخره أوله حتى إذا تكامل سمو أمواجه حالاً على حال وتنور أقاصي الأرض في بنية المقياس فأدناها النظر العال فلم يترك بقعة كانت من قبل فارغة إلا وكلها عند نظره ماق وليت هواه المعتل كان عدلاً فحمل كلّ غدير ما أطاق وطالما جرى بالصفا ولكن كدر صفاه بهذا المسعى والمرجو من الله أن يتلو ما أفسده هذا الماء ما يصلحه خروج المرعى ". وما فله القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر سقى الله تلك الألفاظ النيلية صوب الماطر. وينهي إليه أمر النيل الذي سر في أوائله الأنفس بأنفس بشرى ويقص عليه نبأه العظيم الذي ما يرينا من آية إلا هي أكبر من الأخرى ويصف له ما سقاه إلى الأرض من كل طليعة إذا تنفس الليل تفرق صبحها وتفرى فهو وإن كان خص الله البلاد المصرية بوفوره ووفائه وأغنى به قطرها عن القطر فلم يحتج إلى مد كافه وفائه ونزهه عن منة الغمام الذي هو إن جاد فلا بد من شهقة رعده ودفعه بكائه فقد وطئ بلادها بعسكره العجاج وزاحم ساحتها بأفواج الأمواج فعمل فيها بذراعه ودار عليها بخناقه وتخللها بنزاعه وحملها على سواري الصواري تحت قلةعه وما هي إلا عمد قلاعه وزار زرابي الدور المبثوثة وجاس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة ومرق كالسهم من قناطره المنكوسة وعلا زبد حركته ولزلاه ظهرت في باطنه من الأقمار والنجوم أشعتها المعكوسة وحمل على بركة الفيل حمل الأسود على الأبطال وجعل " المجنونة " من تياره المنحدر في السلاسل والأغلال والمرجو من الله أن يزيل أذاه ويعيد علينا منه ما عهدناه فأن له الإياب الأكبر وفيه العجائب والعبر فها وجود الوفاء عند عدم الصفاء وبلوغ الهرم إذا احتدم واضطرم وأمن كل فريق إذا قطع الطريق وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو كما يقال: سلطان إلى غير ذلك من خصائصه ويراءته مع الزيادة من نقائضه طالما فتح أبواب الرحمة بتعليقه وفاز كل أحد عند رؤية مائه المعصفر بتخليقه ". وما قاله المولى زين الدين عمر الصّفَدِيّ - تغمده الله بعفوه - وجمع له بين حلاوة الكوثر وصفوه: " وأما النيل فقد أخذ الدار والسكان وقال ابن الخامل كما قال ابن النبية: الأمان الأمان وبكى الناس عندما رأوه مقبلاً عليهم بالطوفان وانسابت أراقم غدرانه في الإقليم فابتعلت غدران أراقمه ومحاسيله المتدفق معالمه المجهولة فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه وأحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين السماء بسور وأخذ الطريق على السالكين فلا مركب إلا المراكب ولا عاصم إلا البحور ". وما قاله السديد " ابن كاتب المرج " نصرة الأقباط وأحد عمد الشعر المشهورة بالفسطاط فما أطيب مدائحه التي جعلها سوراً بينه وبين النار وما أعجب رثاؤه: جعل الله قبره بالرحمة كالروض غبّ القطار!!!: يا نيل يا ملك الأنهار قد شربت منك البرايا شراباً طيباً وعداً وقد دخلت القرى تبغي منافعها فعمها بعد فرط النفع منك أذى فقال: يذكر عني أنني ملك وتعتدي ناسياً: إن الملوك إذا!! وما قاله شيخنا الشيخ جمال الدين بن نباته الذي أطاعته من الآداب جوانح نظمها ونثرها وسخرت له بحور الشعر فقالت له الآداب: اختر من درها فسبحان من يسر له ممتنع الكلام وهونه وجعله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فما أشف دقيق فكره الجليل وما أكثر ما يضحك زهر تقاطيعه على زهر مقطعات النيل فما كان إلا مخصوصاً في الأدب ببحور الهبات وكلامه في العذوبة والبلاغة يزري بالفرات وابن نباته: وأما النيل فقد استوى على الأرض فثبتت فيها قدمه وامتد نصل تياره كالسيف الصقيل فقتل الإقليم وهذا الاحمرار إنما هو دمه: حمرتها من دماء ما قتلت والدم في النصل شاهد عجب! فلم يترك وعداً بل وعيداً إلا وفاه ولا وهداً بل جبلاً إلا أخفاه أقبل كالأسد الهصور إذا احتد واضطرم وجاء من سن الجنادل فتحدر وعلا حتى بلغ أقصى الهرم وعامل البلاد بالخيلاء وكيف لا وهو سلطان جائر أيد بالنصر قائلاً: إن كنت بليت بالاحتراق في أرضكم فأنا أفيض بأن أرمي من بروق تياري بشرر كالقصر. هذا وطالما قابلنا قبلها بوجه جميل وسمعنا عنه كل خبر خير ثابت ويزيد كما قال " جميل " وكل بديع من آثار جود يصبغ الثرى فيخضر بخلاف المشهور عن صبغة الليل وطالما خصصناه بدعاء فكانت الراحة به كمقياسه ذات بسطة وكمنازل الخصب بقدومه المبارك ذات غبطة ومنحناه بولاء وثناء هذا يدور من الإخلاص بفلك وهذا يعذب من البحار بنقطة كم ورد إلى البلاد ضيفاً ومعه القرى وكم أتى مرسلاً بمعجز آيات الخصب إلى أهل القرى فهو جواد قد خلع الرسن ساهر في مصالح الخلق وقد ملأ الأمن اجفانهم بالوسن جامع لأهل مصر من سقياه ومرعاه ووجهه بين الماء والخضرة والوجه الحسن كم بات سير مقاسه يشمل بظله الغائبين والحاضرين وكم رفع على الوفاء رايةً صفراء فاقع لونها تسر الناظرين وبلغ وبلغ بخرير التيار سلامه وبات الناس بوفائه من حذار الغلاء تحت الستر والسلامة وخلق صدر العمود وكيف لا يخلق بشير العباد والبلاد ودعا مصر لأخذ زخرفها فسواء قيل: ذات العمود أو ذات العماد وبسط يده ببركة الماء فقيل: سلام لك من أصحاب اليمين وخضب بنانه وأقسم بحصول الخير فقيل لمخضوب البنان يمين وأشار إلى وصول المد المتتابع وقبض يده المخلقة على الماء فوفت وما خابت فروج الأصابع ونادى رائد الوفاء ولكن كم حياة في الأرض لمن ينادي وتمت أصابع الزيادة ونمت حتى قال الناس: ما ذي أصابع ذي أيادي. هذا وقد قرنت زرابي الدور المبثوثة بالنمارق وقال المقياس: تغطت منها الدرج فنال الرجاء وظهرت الدقائق فهو جم المنافع عذب المنابع يشار في الحقيقة والمجاز إليه بالأصابع. فأعاده الله إلى ذلك النفع المعهود وأرانا منه الأمان من الطوفان إلى أن نرد الحوض المورود وكفى أهل مصر هذه المصيبة التي إذا أصابتهم قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا ابتلاهم بمثل ما ابتلى به قوماً جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم فإنما يستغشي ثيابه منهم الفقراء في المطر ويجعل أصابعه في آذانه منهم المؤذنون اللهم إنك ولي النعمة وأولى برحمة خلقك من فيض هذه الرحمة ". وما قاله صاحبنا الشيخ شهاب الدين بن أبي حجله الذي كان أغرب من زرقاء اليمامة وأعجب إذا ركب بغلته وزرزوره من أبي دلامة الأديب الذي كان حجة العرب والناثر الذي كان بنسبته إلى الطيور محرك المناطق وإلى الشعر صناجة الأدب والناظم الذي كان إذا أنشد مقاطيعه في التشبيب فاق على المواصيل ذوات الطرب والصديق الذي كانت منه عوائد الوفاء مألوفة وشيخ الصوفية الذي لا عجب إذا كانت له المقامات الموصوفة أسكنه الله فسيح الجنان وخص ذلك الوجه الجميل بالعارض الهتان من مقامته الزعفرانية عن أبي الرياش: " فاعتنقته لدى السلام وقلت: ما وراءك يا عصام فقد بلغنا أن النيل تزايد دفعه وأدى إلى الضرر نفعه فقال: خذ العفو ولا تكدر بذكر النيل الصفو فقد امتزج بالمعصرات ثجاجه وأعيى طبيب الغيظان علاجه: وشرق حتى ليس للشرق مشرق وغرب حتى للغرب مغرب! قلت: فما فعل النغير بجزيرة الطير قال: لم يبق بها هاتف يبشر بالصباح ولا ساع يسعى برجل ولا طائر يطير بجناح إلا اتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء أو أوى إلى جبل يعصمه من الماء فأذاق بها الحمام الحمام في المروج وترك أرضها كسماء ما لها من فروج وتلا على الحمام: وكم في سماء مائها من نسر واقع ومنهل فيه الغراب ميت سقيت منه القوم واستقيت! قلت: فمصر قال: زحف عليها بعسكره الجرار ونفط مائه الطيار. قلت: فالجيزة قال: طغى الماء حتى علا على قناطرها وتجسر ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسر فأصبح بعد أخضرار بزته شاحب الإهاب ناصل الخضاب غارقاً في عقر بحر يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب وقطع طريف زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء وترك الطالح كالصالح يمشي على الماء فتنادوا مصبحين ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص وغشيهم من اليم ما غشيهم ولات حين مناصن وخر عليهم السقف من فوقهم فهدت قواهم واستغاثوا من كثرة الماء بالذين أمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم. قلت: فالروضة قال: أحاط بها إحاطة الكمام بزهره والكأس بحباب خمره: فكأنها فيه بساط أخضر وكأنه فيها طراز مذهب! فلم يكن لها بدفع أصابعه يدان وكم أنشد مرجها حين مرج البحرين يلتقيان: أعيني كفى من فؤادي فإنه من البغي سعي اثنين في قتل واحد قلت: فدار النحاس قال: أنحس حالها وأفسد ما عليها ومالها فدخل من حمامها الطهر وقطع الطريق بالجامع الظهر فالحق مجاز بابه بالحقيقة ورقي منه على درجتين في دقيقة كم اغترف ما جاوره من الغرف غرفاً وأطلق من مائه الأحمر النار بموردة الخلفا. قلت: فالخليج الحاكمي قال: خرج عسكر موجه بعد الكسر على حميمه ومرق من قسي قنطاره مروق السهم من الرمية. قلت: فالمنشأة قال: أصبحت للبحر مقرة بعد أن كانت للعيون قرة وقيل لمنشئها: أنى يحيى هذه الله بعد موتها قال: يحييها الذي أنشأها أول مرة قد مال على ما فيها من شون الغلال كل الميل وتركها تتلو بفمها الذي شفتاه مصراعا بابها: قلت: فجزيرة أروى قال: قد أفسد جل ثمارها وأتى على مغانيها فلم يدع شيئاً من رديها وخيارها أخلق ديباجة روضها الأنف وترك قلقاسها في الجروف على شفا جرف: بعيني رأيت الماء يوما وقد جرى على رأسه من شاهق فتكسرا! طالما تضرع بأصابعه إلى ربه ولطم برؤوسه الحيطان مما جرى من الماء على قلبه وتمثل بقول الأول: وإن سألوك عن قلبي وما قاسى فقل: قاسى وقل: قاسى وقل قاسى لم يفده تحصنه من ورقه بالدرق والستائر ولا حنا عليه حين تضرع بأصابعه فصح أن الماء قلت: فحكر ابن الأثير قال: لم يبق منه غير الثلث والثلث كثير قد أخمل من دوره خمائلها وجعل عاليها سافلها فكم دار أعدم صاحبها قراره ونادى في عرصاتها المتداعية: إياك أعني فاسمعي يا جارة فأصبحت بعد نفعها قليلة الجدا مستوليه عليها يد الردى شبيهة بدار الدنيا لأنها دار متى أضحكت في يومها أبكت غداً. قلت: فبولاق قال: إملاق قد التفت بها من الزلق الساق بالساق فأتى من النوتية على الصغير والكبير ومن المراكب وممرها على النقير والقطمير. هذا بعد أن ترك جامع الخطيري على خطر وحيطان يانعة الثمر قد دنا قطافها وحان تلافها فكأني به وقد منع رفده وتلا على محرابها سورة السجدة. قلت: فجزيرة الفيل قال: اقتلع أشجارها بشروشها وترك سواقيها خاوية على عروشها. قلت: فالتاج والسبعة وجوه قال: هجم على حرمها وعم الوجوه من فرقها إلى قدمها فبلا ثرى الموت في التخوم وعنت الوجوه للحي القيوم قلت: فما الحيلة قال: ترك الحيلة: دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك راضي طال الكتاب وخرجنا عن فصل الخطاب: ولربما ساق المحدث بعض ما ليس الندي إليه بالمحتاج! وكأني بقائل يقول: أليس من الكبر أن يستخدم هذا في رسالته ملوك الكلام ومن الحمق أن يجلي عرائس أفكاره بما للناس من حلي النثار والنظام فأقول: مسلم أن كل ما أوردته درر وجواهر وعقود كزهر الربيع عيون وجوهها النواظر نواظر ولكنها ها هنا أمثل وجمع شملها على هذي العروس أجمل: وفي عنق الحسناء يستحسن العقد وعلى الجملة فيرجع المملوك إلىالتواضع وهو الأليق في الأدب فيقول: لا عيب على الفقيرة إذا تجملت بحلي الغنية ولا عار على الجوهري إذا نظم سلكاً كانت درره على الطرق مرمية ونرجع إلى ما ولده الفكر من عجب البحر وما ظهر من دفع الملوك لأمثالها عن جريها إلى غاياتها بصور القمر فأقول: إنما قالت الأدباء ذلك لما جرى من جور النيل على الأرض ولما عم الناس من الإرجاف بطول أذاه وهرجه فكأنما هم في يوم العرض وكل ذلك وما وصل إلى هذا الارتفاع وربما كان أنقص من هذه الزيادة بقريب الذراع. وعلى هذا القياس إنما دفع ضرره وجمل في البلاد أثره وحسن في السماء خبره وفي الأرض مخبره السري الذي اهتمام بالمعروف معروف وسيف الدين الذي سهر في مصالح الرعاية لما تنام ملء أجفانها السيوف أتابك العساكر والملك الذي هو بالإسلام له منصور وناصر حصن سائر الكوى بالجسور وركز على أفواه البحر والخليج الأمراء كما يركز المجاهدون على الثغور وقابل البحر من سطواته بما ليس له به قبل ورد دفعه بكل دفع من الرأي والتدبير يغني عن البيض والأسل وحاربه بجيش عزم إلى أن ولى هارباً من التراع والقناطر وجاهد بجند ركزه على جوانبه لما تحقق أن البحر سلطان جائر وحصل بالتضييق عليه كما تحصر البرك والتراع وغلى يده عن التصرف فسقاه الموت كما سقا الناس أنواع النزاع فما هو إلا أن تضاءل بنيران سطواته واحترق وذل خاضعاً وكفى به تضرعاً بالأصابع وتوسلاً بالملق وأطاع لما لم تنجه مجاهرته من تياره بالسيوف ولا تحصنه من داراته بالدرق. على أنه تطاول ليضاهي بأصابعه جود أياديه فقصر وتحسر فركب خيل خيلائه ليحاكي بأسه فوفع من جسور عجبه وتقطر وسمت نفسه كبراً لأن يبلغ قدره فقيل: يا بحر هذا خليفة الله في أرضه والله أكبر نعم: رأى البحر الخصم نداه طام يفيض على الورى منه بحار فصار البحر ملتطماً وأضحى على الحالين ليس له قرار! فلو زدت في أيام غيره من الملوك المترفين وفيمن يؤثر ملاذ نفسه على مصالح المسلمين كنت أيها الملك بلغت قصدك وفعلت في أبناء مصرك جهدك وكنت من الملوك الذين إذا دخلوا قرية انتعلوا فيها الأهلة وأفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة لكن هب قبولك إدباراً ولاقت ريحك إعصاراً فليس لك به قبل " والسيل أدرى بالجبل " فما لك سبيل إلى بلاده ولاطاقة بإياب الخير على عناده فإنه خادم الحرمين والمدعو له حتى في مواقف الحرب بين العلمين حامي السواحل والثغور والمخدوم بأيادي السحائب وأصابع البحور وإن كنت يا أبا خالد أبا جعفر فلست بمنصور والرأي أن تقف مستغفراً وتقول معتذراً لم أفرط بالزيادة في أيامه ولم أفض على طرف الميدان إلا لأفوز بتقبيل آثار جواد خيله ومواطئ أقدامه ونتبع نواهيه ونمتثل أوامره وندعو له كالرعايا بطول البقاء في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة. ونحن نسأل الله كما بلغ بك المنافع أن يرينا كوكب نؤئك عن قريب راجع وكما أغنى بزيادتك عن الاستسقاء لا يحوجنا في نقصك إلى الاستضحاء إنه سميع مجيب الدعاء بمنه وكرمه.
جمع قدمة بكسر القاف وسكون الدال المهملة وهي رسائل تشتمل على حال الرمي بالبندق وهذه نسخة قدمة كتب بها شيخنا الشيخ شمس الدين محمد بن الصائغ الحنفي الأديب رحمه الله لصلاح الدين بن المقر المحيوي بن فضل الله ونصها: الحمد لله الذي سدد لصلاح الدين سهام الواجب وشيد بنجاح المطلوب مرام الطالب وجعل حصول الرزق الشارد بالسعي في المناكب وسهل الممتنع على القاصدين فما منهم إلا من رجع وهو صائب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا صاحب شهادة تزجر طير الإشراك بهذا الأشراك من كل جانب وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قربه فكان قاب قوسين أو أدنى وهذه أعلى المراتب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين رقوا في العلياء لمراقي لم يسم إليها طير مراقب صلاة يسبق بها المصلي إلى بقاع شرف يشرق سناه في المشارق والمغارب ويرجع طائراً بالسرور ولا رجوع الطائر الشارد إلى المشارب. وبعد فإن الصيد من أحل الأشياء وأحلاها وأجلاها وأبهرها وأبهاها وأشهرها وأشهاها وأفخرها قيمة وأغزرها ديمة بورود الطيف فيه إلى المناهل تنشرح الصدور وبوقوعه في شرور الشرك يتم السرور يحصل عند متعاطيه نشاطاً ويزيده انبساطاً ويشرح خاطره ويسرح ناظره ويملأ عينه قرة وقلبه مسرة يشجع الجبان ويثبت الجنان ويقوي الشهوة ويسوي الخطوة ويسوق الظفر ويشوق النظر ويروق منه الورد والصدر ويوفق فيه الخبر على الخبر. قال بعض الحكماء: " قلما يغمش ناظر زهرة أو يزمن مريع طريدة " يعني بذلك من أدمن الحركة في الصيد ونظر إلى البساتين فاستمتع طرفه بنضرتها وأنيق منظرها. ومنذ الذي ينكر لذة الاصطياد والطرب بالنقص على الإطراد ولله در القائل: لولا طراد الصيد لم تك لذة فتطاردي لي بالوصال قليلا. هذا الشراب أخو الحياة وما له من لذة حتى يصيب عليلا! يا حسنه من فعل اعتلت بالنسيم موارده ومصادره وفاقت أوائله في اللذاذة أواخره ولله القائل: إنما الصيد همة ونشاط يعقب الجسم صحة وصلاحا ورجاء ينال فيه سرور حين يلقى إصابة ونجاحا! وما أطيب الاقتناص بعد الشرود وكيف يرى موقع الوصل بعد الصدود: وزادني رغبة في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا! تقضي رياضات النفوس السامية بمعاطاة كاسه ومصافاة ناسه لما فيهم من الفتوة وكمال المروة وصدق اللسان وثبات الجنان وطيب الأخلاق وحفظ الميثاق لا يعرفون غير الصدق وإن كانوا يميلون إلى الملق ولا يبغون بصاحبهم بديلاً يعطفون عليه عطف النسق لا سيما تعاطي صيد طيور الواجب الذي سنه الأكابر وجعلوا أمره من الواجب وتشرفت به هممهم العالية: تارة إلى السماء وآونة إلى مشارع الماء. لا يتم سرورهم إلا برؤية تم كبدر التمام ومصباح الظلام يفر من ظله فراراً ويريك بياض لونه وسواد منقاره شيباً ووقارا ولا يداوي هموم لغبهم مثل كي لأجنحته الخوافق في الخافقين نشر وطي ولا تبتهج نفوسهم النفيسة إلا بإوزة حين تمتد كأنها مدامة في الزجاجة مفرغة ولا يؤنسهم إلا الأنيسة الأنيسة والدرة النفسية ولا يذهب حرجهم غير الحبرج الصادح والمستوقف بحسنه كل غاد ورائح تكاد قلوبهم تطير بالفرح عند رؤية النسر الطائر وتجبر خواطرهم بكسر ذلك الكاسر إذا عاينوا عقباناً أعقبهم الفرح ونزح عنهم الترح وإن كركركي فر عنهم البوس ورأوا على رأسه ذلك التاج الذي لم يعل مثله على الرؤوس وإن عرض غرنوق غزقوا في بحار أفكارهم وجدوا إلى أن يقع بمجدول أوتارهم وأن لاح ضوع كالذهب الموضوعة ألقوه في الحبال وهو بدمه مصبوغ وأن مر مرزم كالخودة الحسناء ضربوا له الآلةالحدباء وإن مر السبيطر أجنحته كالسحائب جاءته المرامي من كل جانب وأن عن عنز عمدوا إليه حتى يسقط في يديه قد تعالوا في رتبعا وتغالوا في وصف وشيها وجعلوا كل آلة صنيعة وربة جمال منيعة وبعيدة الرمي بديعة: - من كل قوس هي في العين كالحاجب أو النون التي أجادها الكاتب تدور الطائر عند الرمي وتذيبه وتئن أنيناً أولى به من تصيبه. وبندق جبلت طينته على صوب الصواب يستنزل الطير ولو استتر بذيل السحاب الواكف فينقض عليه انقضاض البرق الخاطف ويرجع النسر من حتفه راتعاً ويغدو بعد أن كان طائراً واقعاً ويصير بعد أن كان كاسراً مكسوراً وفي سوار القسي مأسوراً فهنالك يلفى الغالب وهو مغلوب والطير الواجب وهو مندوب فحينئذ تنشرح النفوس وتطرب ولا طربها بالكؤوس. ولما كان بهذه المنزلة العظيمة والمرتبة الجسيمة تعاطته الملوك وأبناء الملوك ونظموا عقده بحسن السلوك وارتاضت به النفوس الطاهرة واعتاضت به عن الكؤوس الدائرة ورأت به تكميل الأدوات وسامت به فعل الواجب وإن قيل: إن ذلك من الهفوات فهو تعب تنشأ الراحة عنه ولعب لم يكن شيء أشبه بالجد منه. فلذلك قصد الجناب الكريم العالي الصلاحي صلاح الدنيا والدين ونجاح الطالبين سليل الوزراء ونجل الكبراء وصدر الرؤساء وعين العظماء ابن المقر المحيوي بن فضل الله أدام الله تعالى علاه وكتب عداه وأعلى معاليه وشكر مساعيه وأطال حياته وأطاب ذاته - أن يسلك تلك المسالك ويريض نفسه الكريمة بذلك ويتحيل على تحصيل اللذات بالتحول عملاً تنقل فلذات الهوى في التنقل! وعمد إلى تحصيل آلاته سائراً كالبدر في هالاته فسار مع سرايا كالنجوم يتفاكهون في الحديث بالمنثور والمنظوم ويخلطون جد القول بهزله كلما خلط لهم طل الجود بوبله وانحدروا في النيل بجمعهم الصحيح وقصدوا المرامي العالية ولم يقنعوا من الأيام بالريح وظلوا يسيرون في تلك المراكب التي كأنها قطع السحائب. هذا وهم يتشوفون إلى المصايد ويتشرفون إلى الشوارد فيطلعون أحياناً إلى البر متفرجين وبطيب ذلك النسيم متأرجين: نسيم قد سرى فيهم بنشر فأذكرهم بمسراه السريا كرامته استقرت حين وافى له نفس يعيد الميت حيا! ويجتنون من الغصن الزاهي قداً ويجتلون من الورد الزاهر خداً ويتأملون ضحك الأرض من بكاء السماء وشماخة القضب عند خرير الماء لا تذوق أجفانهم طعم الكرى ولا يميلون عن السير ولا يملون السرى ما منهم إلا من إذا رأى الطير جائشاً عاد من وقته له حائشاً بينما هم يسيرون متفرقين حتى إذا لاح لهم طير تداعوا إليه غير مقصرين والتفوا محلقين ولم يزالوا كذلك ينهمون العيش بالدعة والطيش حتى إذا أقبل اليوم المبارك الثامن والعشرون من جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وهو اليوم الذي عزم فيه الجناب الصلاحي على الاصطياد بالبنادق الحداد فتباشرت به الطيور وسدت بأجنحتها الثغور وسهل عندها فيه نزول الرئيس فجادت له بالنفيس وخرجت من قشرها وسمحت عند مد القوس بحز نحرها ورغب كل منها أن يكون له بذلك أوفر القسم وترجى أن يكون هو المكتوب له في القدم. ومد يده نحو السما فأصاب مرزما فيا له من صيد فاق به على الأكابر الصيد! ويا له من يوم صار بنحر الطير يوم العيد!! قام فيه بواجب ما شرعه الرماة من الشرع وذكرنا بهذا الصرع يوم ذلك الصرع فلا زال سهمه مسدد الأغراض وجوهره محمياً من الأغراض يجري بمراده المقدور ويطيعه في سائر الأمور. وقد نظمت مخمساً مشتملاً على ذكر طيور الواجب وطرزته باسمه لأن هده القدمه قد قدمت له وجعلت برسمه غير أني أعتذر عنها لعدم مادة عني أستمد منها: جل كؤوساً عطلت بالراح ولا تطع فيها كلام لاحي واشرب هنيئاً واسقني ياصاح واذكر زماناً مر بالأفراح هبت به فيما مضى رياحي! أيام كنت أصحب الأكابرا وأغتدي مع الرماة سائرا نحوته من سائر النواحي! فتارة كنت أصيد النسر وبعدها العقاب يحكي الجمرا والكي والكركي صدت جهرا وصدت غرنوقاً وعنزاً قهرا وكنت بالإوز في انشراح! وتارة تمن كبدر التم تتبعه أنيسة كالنجم ولغلغ أسود مسك الهم وحبرج عن الرماة محمي والضوع مع سبيطر سياح! وكم وكم قد صدت يوماً مرزما أنزلته بالقوس من جو السما جناحه يحكي طرازاً معلما على بياض شية شبه الدما كأنه ليل على صباح! حيث الصبا تشفع بالقبول وشملنا يجمع بالشمول في مجلس ليس به فضولي وجاءنا التوقيع في الوصول: فسادكم يغفر بالصلاح السيد الفائق في أفعاله والمزدري بالبدر في كماله إلا أخوه معدن السماح! من ساد في الدنيا على الكتاب وصان سر الملك في حجاب علي العالي على السحاب الباذل المال بلا حساب! زاده الله نعما وأجرى له الندى يدا وثبت له في العلى قدما بمنه وكرمه. وهذه نسخة رسالة في صيد البندق من إنشاء الشيخ شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سلمان الحلبي رحمه الله وهي: الرياضة - أطال الله بقاء الجناب الفلاني وجعل حبه كقلب عدوه واجباً وسعده كوصف عبده للمسار جالباً وللمضار حاجباً - تبعث النفس على مجانبة الدعة والسكون وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركونإلى الوكون وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن وتأخذ به طوراً في الجد وطوراً في اللعب وتصرفها من ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب فتارة تحمل الأكابر والعظماء في طلب الصيد على مواصلة السرى ومقاطعة الكرى ومهاجرة الأوطار ومهاجمة الأقطار ومكابدة الهواجر ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها وإذا كان المقصود من ميلهم جد الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها. وتارة يدعوهم إلى البروز إلى الملق ويحدوهم في سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق فيعتسفون إليها الدجى إذا سجى ويقتحمون في بلوغها حرق النهار إذا انهار ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر ويؤثرون السهر على النوم والليلة على اليوم والبندق على السهام والوحدة على الالتئام. ولما عدنا من الصيد الذي اتصل به حديثه وشرح له قديم أمره وحديثه تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح برمي الصوادح وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح تفضيلاً لملازمة الارتحال على الإقامة في الرحال وأخذاً بقولهم: لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال! فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها وتسير من الأفق الغربي إلى موضع رمسها وتغازل عيون النور بمقلة أرمد وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العود فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق أو عليل يقضي بين صحبه بقايا مدة الرمق وقد اخضلت عيون النور لوداعها وهم الروض بخلع حلته المموهة بذهب شعاعها: والطل في أعين النوار تحسبه دمع تحير لم يرقأ ولم يكف: يضم من سندس الأوراق في صرر خضر ويجنى من الأزهار في صدف والشمس في طفل الإمساء تنظر من طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي كعاشق سار عن أحبابه وهفا به الهوى فتراآهم على شرف إلى أن نضى المغرب عن الأفق حلي قلائدها وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها فلبثنا بعد أداء الفرض لبثا الأهلة ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحلة ونهضنا وبرد الليل موشع وعقده مرصع وإكليله مجوهر وأديمه معنبر وبدره في خدر سراره مستكن وفجره في حشا مطالعه مستجن كأن امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل وكأن ثرياه لامتداده معلقة بأمراس كتان إلى صم جندل: ولاحت نجوم الليل زهراً كأنها عقود على خود من الزنج تنظم محلقة في الجو تحسب أنها " طيور " على نهر المجرة حوم إذا لاح بازي الصبح ولت يؤمها إلى الغرب خوفاً منه نسر ومرزم! إلى حدائق ملتفة وجداول محتفة إذا خمش النسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب وإذا فرك مر المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب ورقصت في المناهل رقص الحباب وإن لثم ثغور نورها حيته بأنفاس المعشوق وإن أيقظ نواعس غزقها غنته بألحان المشوق وطلها في خدود الورد منبعث طوراً وفي طرر الريحان حيران! وطائرها غرد وماؤها مطرد وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف وتارة " يعتدل " تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين الترتيب إذا كل ما اعتل النسيم صح الأرج وكلما خر الماء شمخ القضيب: فكأنما تلك الغصون إذا ثنت أعطافها أريح الصباأحباب: فلها إذا افترقت من استعطافها صلح ومن سجع الحمام عتاب وكأنها حول العيون موائساً شرب وهاتيك المياه شراب! فغديرها كأس وعذب نطافها راح وأضواء النجوم حباب! يحيط بملق نطاقها صاف وظلال دوحها ضاف وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد وفي رأي العين طاف إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل وإذا طردت عليه أنفاس الصبا ظننت أفياء تلك الغصون تارة تتموج وتارة تسيل: فكأنه محب هام بالغصون هوى فمثلها في قلبه وكأن النسيم كلف بها غار من دنوها إليه فميلها عن قربه: والنون مثل عرائس لفت عليهن الملاء شمرن فضل الأزرعن سوق خلاخلهن ماء وكأن صواف الطيور المتسقة بتلكالأرض خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام أو أباريق فضة رؤوسها لها أقدام ومناقيره المحمرة أوائل ما انسكب من المدام وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب أو شموع أسود رؤوسها ما انطفى وأحمره ما التهب وكنا كالطير الجليل عدة وكطراز العمر الأول جدة: من كل أبلج كالنسيم لطافة عف الضمير مهذب الأخلاق مثل البدور ملاحة وكعمرها عدداً ومثل الشمس في الإشراق! ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها والأهلة في نحافتها وتكوينها والأزاهر في ترافتها وتلوينها بطونها مدبجة ومتونها مدرجة كأنها كواكب الشولة في انعطافها أو أوراق الظباء في التفافها لأوتادها عند القوادم أوتار ولبنادقها " في " الحواصل أوكار إذا انتصيت لصيد ذهب من الحياة نصيبه وإن انتضت لرمي بدا لها أ ها أحق بم ممن يصيبه ولعل ذاك الصوت زجر لبندقها أن يبطئفي سيره أو يتخطى الغرض إلى غيره أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها أو أسف على خروج بينها من يدها على أنها طالما نبذت بينها بالعراء وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء: مثل العقارب أذناباً معقدة لمن تأملها أو حقق النظرا! فهو المسيء اختياراً إذا نوى سفراً وقد رأى طالعاً في العقرب القمرا! ومن البنادق كرات متفقة السرد متحدة العكس والطرد كأنما خرطت من المندل الرطب أو عجنت من العنبر الورد تسري كالشهب في الظلام وتسبق إلى مقاتل الطير مسددات السهام: مثل النجوم إذا ما سرن في أفق عن الأهلة لكن نونها راء ما فاتها من نجوم الليل إن رمقت إلا ثبات يرى فيها وأضواء تسري ولا يشعر الليل البهيم بها كأنها في جفون الليل إغفاء وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه خوافقاً في الدياجي وهي صماء!!! يصونها جرواة كأنها درج درر أو درج غرر أو كمامة ثمر أو كنانة نبل أو غمامة وبل حالكة الأديم كأنما رقمت بالشفق حلة ليلها البهيم: كأنها في وضعها مشرق تنبث منه في الدجى الأنجم أو ديمة قد أطلعت قوسها ملوناً وانبثقت تسجم! فاتخذ كل له مركزاً وتقضى من الإصابة وعداً منجزاً وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزاً: كأنهم في يمن أفعالهم في نضر المنصف والجاحد: فسرت علينا من الطير عصابة أظلتنا من أجنحتها سحابة منة كل طائر أقلع يرتاد مرتعاً فوجد ولكن مصرعاً وأسف يبتغي ماء جما فوجد ولكن السم منقعاً وحلق في الفضاء يبغي ملعباً فبات هو وأشياعه سجداً لمحاريب القسي وركعاً فتبركنا بذلك الوجه الجميل وتداركنا أوائل ذلك القبيل. فاستقبل أولنا تمام بدره وعظم في نوعه وقدره كأنه برق كرع في غسق أو صبح عطف على بقية الدجى عطف النسق تحسبه في أسداف المنى غرة نجح وتخاله تحث أذيال الدجى طرة صبح عليه من البياض حلة وقار وله كدهن عنبر فوق منقار من قار له عنق ظليم والتفاتة ريم وسرى غيم يصرفه نسيم: كلون المشيب وعصر الشباب ووقت الوصال ويوم الظفر! كأن الدجى غار من لونه فأمسك منقاره ثم فر! فأرسل إليه عن الهلال نجماً فسقط منه ما كبر بما صغر حجماً فاستبشر بنجاحه وكبر عند صياحه وحصله من وسط الماء بجناحه. وتلاه كي نقي اللباس مشتعل شيب الرأس كأنه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس إن أسف في طيرانه فغمام وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النسيم زمام ذو عيبة كالجراب ومنقار كالحراب ولون يغر في الدجى كالنجم ويخدع في الضحى كالسراب ظاهر الهرم كأنما يخبر عن عاد ويحدث عن إرم: إن عام في زرق الغدير حسبته مبيض غيم في أديم سماء أو طار في أفق السماء ظننته في الجو شيخاً عائماً في ماء متناقض الأوصاف فيه خفة الجهال تحت رزانة العلماء! فثنى الثاني إليه عنان بندقه وتوخاه فيما بين رأسه وعنقه فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه فتلقاه الكبير بالتكبير واختطفه قبل مصافحة الماء من وجه الغدير. وقارنته إوزة حلباء دكناء وحلتها حسناء لها في الفضاء مجال وعلى طيرانها خفة ذوات التبرج وخفر ربات الحجال كأنما عبت في ذهب أو خاضت في لهب تختال في مشيتها كالكاعب وتتأنى في خطوها كاللاعب وتعطف بجيدها كالظبي الغرير وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير: إذا أقبلت تمشي فخطرة كاعب رداح وإن صاحت فصولة حازم وإن أقلعت قالت لها الريح: ليت لي خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم فأنعم بها في البعد زاد مسافر وأحسن بها في القرب تحفة قادم! فلوى الثالث جيده إليها وعطف بوجه إقباله عليها فلجت في ترفعها ممعنة ثم نزلت على حكمه مذعنة فأعجلها عن استكمال الهبوط واستولى عليها بعد استمرار القنوط. وحاذتها لغلغة تحكي لون وشيها وتصف حسن مشيها وتربي عليها بغرتها وتنافسها في المحاسن كضرتها كأنها مدامة قطبت بمائها أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها: بغرة بيضاء ميمونة تشرق في الليل كبدر التمام! وإن تبدت في الضحى خلتها في الحلة الدكناء برق الغمام! فنهض الرابع لاستقبالها ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها فجدت في العلو مبتذة وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصيد لم تك لذة وانقض عليها من يده شهاب حتفها وأدركها الأجل لخفه طيرانها من خلفها فوقعت من الأفق في كفه ونفر ما في بقايا صفها عن صفه. وأتت في إثرها انيسة آنسة كأنها العذراء العانسة أو الأدماء الكانسة وعليها خفر الأبكار وخفة ذوات الأوكار وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار ولها أنس الربيب وإدلال الحبيب وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب ذات عنق كالإبريق أو الغصن الوريق قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق وصدر بهي الملبوس شهي إلى النفوس كأنما رقم فيه النهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآنبوس وجناح ينجيها من العطب يحكي لونها المندل الرطب لولا أنه حطب: مذبحه الصدر تفويقه أضاف إلى الليل ضوء النهار لها عنق خاله من رآه شقائق قد سيجت بالبهار! فوثب الخامس منها إلى الغنيمة ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة. وأتى على صوتها حبرج تسبق همته جناحه ويغلب خفق قوادنا صياحه مدبج المطا كأنما خلع حلة منكبيه على القطا ينظر من لهب ويخطو على رجلين من ذهب: يزور الرياض ويجفو الحياض ويشبه في اللون كدر القطا ويغوي الزروع ويلهو بها ولا يرد الماء إلا خطى! فبدره السادس قبل ارتفاعه وأعان قوسه بامتداد باعه وفخر على الألاء كبسطام بن قيس وانقض عليه راميه " فحصله " بحذق وحمله بكيس. وتعذر على السابع مرامه ونبا " به " عن بلوغ الأرب مقامه فصعد هو وترب له إلى جبل وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل. فعن له نسر ذو قوائم شداد ومناسر حداد كأنه من نسور لقمان بن عاد تحسبه في السماء ثالث أخويه وتخاله في الفضاء قبته المنسوبة إليه قد حلق كالفقراء رأسه وجعل مما قصر من الدلوق الدكن لباسه واشتمل من الرياش العسلي إزاراً وألف العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشواهق مزاراً قد شابت نواصي الليل وهو لم يشب ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب: مليك طيور الأرض شرقاً ومغرباً وفي الأفق الأعلى له أخوان! له حال فتاك وحلية ناسك وإسراع مقدام وفترة وان! فدنا من مطاره وتوخى ببندقه عنقه فوقع في منقاره كأنما هد منه صخراً أو هدم به بناءً مشمخراً ونظر إلى رفيقه مبشراً له بما امتاز به عن فريقه. وإذا به قد أظلته عقاب كاسر كأنما أضلت صيداً أفلت من المناسر إن حطت فسحاب انكشف وإن أقامت فكأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف بعيدة ما بين المناكب: إذا أقلعت لجت علوا كأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب يرى الطير والوحش في كفها ومنقارها ذا عظام مزاله فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها ورماها بأول بندقى فما أخطأ قادمة جناحها فأهوت كعود صرع أو طود صدع قد ذهب باسها وتذهب بدمها لباسها وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه ويستنزل الأعصم من عقابه فحملها بجناحها المهيض ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض ونزل إلى الرفقة جذلاً بربح الصفقة. فوجد التاسع قد مر به كركي طويل الشفار سريع النفار شهي الفراق كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق لقوادمه في الجو حفيف ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف تحن إلى صوته الجوارح تعجب من قوته الرياح البوارح له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد أو بقية جرح تحت ضماد أو فص عقيق شفت عنه بقايا ثماد ذو منقار كسنان وعنق كعنان كأنما ينوس على عودين من آبنوس: إذا بدا في أفق مقلعاً والجو كالماء تفاويفه: حسبته في لجة مركباً رجلاه في الأفق مجاديفه! فصبر له حتى جازه مجلياً وعطف عليه مصلياً فخر مضرجاً بدمه وسقط مشرفاً على عدمه وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون وأصابه القدر بحبة من حمإ مسنون فكثر التكبير من أجله وحمله على وجه الماء برجله. وحاذاه غرنوق حكاه في زيه وقدره وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه معقودتان من أذنيه مكان شنفه: له من الكركي أوصافه سوى سواد الصدر والراس إن شال رجلاً وانبرى قائماً ألفيته هيأة برجاس! فأصغى العاشر له منصتاً ورماه متلفتاً فخر كأنه صريع الألحان أو نزيف بنت الحان فأهوى إلى رجله بيده " وأيد " وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده. وتبعه في المطار ضوع كأنه من النضار مصنوع تحسبه عاشقاً قد مد صفحته أو بارقاً قد بث لفحته: طويلة رجلاه مسودة كأنما منقاره خنجر مثل عجوز رأسها أشمط جاءت وفي رقبتها معجر! فاستقبله الحادي عشر ووثب ورماه حين حاذاه من كثب فسقط كفارس تقطر عن جواده أو وامق أصيبت حبة فؤاده فحمله بساقه وعدل به إلى رفاقه. واقترن به مرزم له في السماء سمي معروف ذو منقار كصدغ معطوف كأن رياشه فلق اتصل به شفق أو ماء صاف علق بأطرافه علق: إذا أقلع ليلاً قل - ت برق في الدجى ساري! فانتحاه الثاني عشر ميمماً ورماه مصمماً فأصابه في زوره وحصله من فوره وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره. والتحق به سبيطر كأنه " مدية " مبيطر ينحط كالسيل ويكر على الكواسر كالخيل ويجمع من لونيه بين ضددين يقب منهما بالنهار ويدبر بالليل يتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم: تراه في الجو ممتد وفي فمه من الأفاعي شجاع أرقم ذكر: كأنه قوس رامٍ عنقه يدها ورجله رجلها والحية الوتر! فصوب الثالث عشر إليه بندقه فقطع لحيه وعنقه فوقع كالصرح الممرد أو الطراف الممدد. وأتبعه عناز أصبح في اللون ضده وفي الشكل نده كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره أو انطوى على هالة بدره: تراه في الجو عند الصبح حين بدا مسود أجنحة مبيض حيزوم: كأنه حبشي عام في نهر وضم فيصدره طفلاً من الروم! فنهض تمام القوم إلى التتمة وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمة وغدا ذلك الطير الواجب واجباً وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عيناً أو تبرز حاجباً فيا لها ليلة حضرنا بها الصادح في الفضاء المتسع ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام أو شرب كأن رقابها من اللين لم يخلق لهن عظام وأصبحن مثنين على مقامنا منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا داعين للمولى جهدنا مذعنين له قبلنا أو ردنا حاملين ما صرعنا إلى بين يديه عاملين على التشرف بخدمته والانتماء إليه: فأنت الذي لم يلف من لا يوده ويدعى له في السر أو يدعى له: فإن كان رمي أنت توضح طرقه وإن كان جيش: أنت تحمي قبيله! والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل ويجعله كهفاً للأولياء وقد جعل بمنه وكرمه. " إنما أثبت هذه الرسالة بكمالها لكثرة ما اشتملت عليه من الأوصاف ولتعلق بعضها ببعض.
|