الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
وتقبل التوبة قبل الغرغرة *** كما أتى في الشرعة المطهرة هذه هي المسألة السادسة، وهي أن التوبة إذا استكملت شروطها، مقبولة من كل ذنب كفرا كان أو دونه، وقد دعا الله تبارك وتعالى إليها جميع عباده، فدعا إليها من قال المسيح هو الله، ومن قال هو ثالث ثلاثة، ومن قال يد الله مغلولة، ومن قال إن الله فقير ونحن أغنياء، ومن دعا لله الصاحبة والولد، فقال لهم جميعا: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم)، (المائدة 74). ودعا إليها من هو أعظم محادة لله من هؤلاء، وهو من قال أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري، فقال الله تبارك وتعالى لرسوله موسى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى)، (النازعات 17- 19)، وقال له في الآية الأخرى: (أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون)، (الشعراء 11)، وفي الآية الأخرى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)، (طه 43). ودعا إلى التوبة من عمل أكبر الكبائر، وهي الشرك، وقتل النفس بدون حق والزنا، فقال تعالى: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما)، (الفرقان 68- 70). ودعا إليها من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى، فقال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)، (البقرة 159- 160). ودعا إليها المشركين قاطبة، فقال بعد الأمر بقتلهم حيث وجدوا (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)، (التوبة 5). ودعا إليها المنافقين قاطبة، فقال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين)، (النساء 146). ودعا إليها جميع المسرفين بأي ذنب كان، فقال تعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له)، (الزمر 53- 54) الآيات، وغيرها ما لا يحصى، بل لم يرسل الله تعالى الرسل وينزل الكتب إلا دعوة منه لعباده إلى التوبة؛ ليتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم. وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك، إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح. وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبدي ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي دنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربي، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. وفيه عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسئ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل، قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له. فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت، ناء بصدره. وفي رواية: فلما كان في بعض الطريق، أدركه الموت فناء بصدره، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها شبرا، فجعل من أهلها. وفيه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا هل لما عملنا كفارة؟ فنزل: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون)، (الفرقان 68)، ونزل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، (الزمر 53). وقال محمد بن إسحاق: قال نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال: وكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر؛ لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)، (الزمر: 53- 55) قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه. قال: فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى، أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم أفهمنيها. قال: فألقى الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
والأحاديث في شأن التوبة والحث عليها وفي تكفيرها للذنوب كثيرة جدا، لها مصنفات مستقلة، وحيث ذكرت من الآيات والأحاديث، فإنما المراد بها التوبة النصوح، وهي التي اجتمع فيها ثلاث شروط: (الأول): الإقلاع عن الذنب. (الثاني): الندم على فعله. (الثالث): العزم على أن لا يعود فيه، فإن كان في ذلك الذنب حق لآدمي، لزم استحلاله منه إن أمكن، للحديث الذي قدمنا: من كان عنده لأخيه مظلمة، فليتحلل منه اليوم، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم " الحديث في الصحيح. وهذه الشروط في كيفية التوبة. وأما الشرط في زمانها فهو ما أشرنا إليه في المتن بقولنا: " قبل الغرغرة " وهي حشرجة الروح في الصدر، والمراد بذلك الاحتضار عندما يرى الملائكة، ويبدأ بها السياق، قال الله تبارك وتعالى -: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما)، (النساء: 17- 18). وعن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد، فهو جهالة. رواه ابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء، عصي الله به، فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. وقال مجاهد: كل عامل بمعصية الله، فهو جاهل حين عملها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من جهالته عمل السوء. وعنه رضي الله عنه قال: (ثم يتوبون من قريب) قال: بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي: ما دام في صحته. وهو مروي عن ابن عباس. وقال الحسن البصري: ثم يتوبون من قريب ما لم يغرغر. وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب، وروى الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وله عن عبد الرحمن البيلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم. فقال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم. فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة. وقال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه. وروى ابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر. وهذا توقيت زمان التوبة في حق كل فرد من العباد، وأما في حق عمر الدنيا، فقد تقدم في الآيات والأحاديث أنها تنقطع بطلوع الشمس من مغربها؛ لأنها أول آيات القيامة العظام وحين الإياس من الدنيا، كما أن رؤية ملك الموت آية الانتقال من الدنيا، وحين الإياس من الحياة، وكذلك الأمم المخسوف بها انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب، قال الله تبارك وتعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثار في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)، (غافر 82- 85).
وتبليغه الرسالة، وإكمال الله لنا به الدين، وأنه خاتم النبين، وأفضل الخلق أجمعين، وأن من ادعى النبوة بعده، فهو كاذب يكفر من صدقه واتبعه نبينا محمد من هاشم *** إلى الذبيح دون شك ينتمي
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ولد هاشم، وهو صلى الله عليه وسلم أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه مغيرة بن قصي، واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأمه صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأم عبد الله فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. وأم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال. وأم عبد مناف حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي. وأم قصي فاطمة بنت سعيد بن سيل أحد الجدرة من جعثمة الأسد من اليمن. وأم كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. وأم مرة حبشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر. وأم كعب ماوية بنت كعب بن القين بن الجسر من قضاعة. وأم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي. وأم غالب ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي. وأم مالك عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وأم خزيمة أمرأة من قضاعة. وأم مدركة بن إلياس خندف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة. وأم إلياس بن مضر جرهمية. وأم مضر سودة بنت عك بن عدنان. وأم ربيعة أخي مضر شقيقة بنت عك بن عدنان. وهاتان القبيلتان المضروب بهما المثل- ربيعة ومضر- ابنا نزار بن معد بن عدنان، ولمضر أخ شقيق وهو إياد بن نزار، ولربيعة أخ شقيق أيضا وهو أنمار بن نزار. وهذا هو النسب المتفق على سرده، لا خلاف فيه لأحد، وكذا لا خلاف في أن نسب عدنان إلى الذبيح إسماعيل الحليم، ابن إبراهيم الخليل، عليهما الصلاة والسلام، وكذا لا خلاف في أن إبراهيم ينتمي إلى سام بن نوح، وهو أبو العرب قاطبة، وكذا لا خلاف في أن نوحا ينتمي إلى شيث بن آدم، وهو وصي أبيه عليهم السلام، وإنما الخلاف في كمية الآباء بين عدنان وإسماعيل بن إبراهيم، وبين إبراهيم وسام بن نوح، وبين نوح وشيث بن آدم، وقد كان كثير من أئمة الدين، كمالك بن أنس الإمام وغيره، يكرهون تعداد الآباء من فوق عدنان، ويقولون: هم رجم بالغيب، وما يدري من يفعل ذلك، والله تعالى يقول: (وقرونا بين ذلك كثيرا)، (الفرقان 38). وقال أبو عمر بن عبد البر- رحمه الله: كان قوم من السلف، منهم عبد الله بن مسعود وعمر بن ميمون الأودي ومحمد بن كعب القرظي، إذا تلوا: (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله)، (إبراهيم 9)، قالوا: كذب النسابون. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا بلغ عدنان يقول: كذب النسابون. قال السهيلي: وقد رأى جماعة جواز ذلك، منهم ابن إسحاق والبخاري والزبير بن بكار والطبري وغيرهم من العلماء. قال أبو عمر بن عبد البر: والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام. والمقصود أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أخرجه الله تعالى من وسط العرب نسبا، وأكرمهم حسبا، وأعلاهم كعبا، وأعظمهم جرثومة، وأشرفهم أصلا، وأطيبهم فرعا. وقال مسلم بن الحجاج- رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم جميعا، عن الوليد. قال ابن مهران: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. وروى الترمذي، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى خلق الخلق، فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم خير القبائل، فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. وفي رواية: فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله، عليك السلام. قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق، فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا. هذا حديث حسن. وحمى الله تبارك وتعالى أصول نبينا من سفاح الجاهلية، فلم يشب نسبه شيء من ذلك، لا من جهه آبائه، ولا من جهة أمهاته، ولم يولد إلا من نكاح كنكاح الإسلام، كما رواه جماعة، عن جعفر الصادق، عن آبائه مرفوعا: إني ولدت من نكاح، ولم أولد من سفاح.
وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كما روى الترمذي وغيره، عن عبد المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، قال: وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليث: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد. قال: ورأيت خذق الفيل أخضر محيلا. قال الترمذي: حديث حسن. مولده بمكة المطهرة *** هجرته لطيبة المنورة بعد أربعين بدا الوحي به *** ثم دعا إلى سبيل ربه عشر سنين أيها الناس اعبدوا *** ربا تعالى شأنه ووحدوا وكان قبل ذاك في غار حرا *** يخلو بذكر ربه عن الورى (مولده) صلى الله عليه وسلم- (بمكة المطهرة) من كل رجس حسا ومعنى، (هجرته) صلى الله عليه وسلم- (لطيبة) المدينة (المنورة)، وكان ذلك موجودا في الصحف التي بشرت به صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل وغيرهما. والآيات في ذلك والدلائل على ذلك لا تحصى، ثم كان الأمر كما بشرت، فولد بمكة، وأوحي إليه فيها، وبعث بالدعوة إلى الله فيها، ثم كانت هجرته إلى المدينة، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.
(بعد أربعين) سنة من عمره صلى الله عليه وسلم- (بدأ الوحي) من الله- عزوجل- إليه (به) صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى عليه وسلم ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق ولا آدم، ليس بجعد قطط ولا سبط رجل، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين. الحديث. وكيفية بدء الوحي ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ؟ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ؟ فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ؟ فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم)، (العلق 1- 3)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله، لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على النوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءا قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال، وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني، جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر... إلى قوله: والرجز فاهجر)، (المدثر 1- 5) فحمى الوحي وتتابع. تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح، وتابعه هلال بن رداد، عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره. حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانه قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به)، (القيامة 16) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لك، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد: وأنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتجعل به إن علينا جمعه وقرآنه)، (القيامة 16- 17). قال: جمعه لك بصدرك، وتقرأه (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)، (القيامة 18) قال: فاستمع له وأنصت، ثم (إن علينا بيانه)، (القيامة 19)، ثم إن علينا أن تقرأه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل، استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. وقال- رحمه الله تعالى: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا.
(ثم دعا إلى سبيل ربه)، وهو على دين الإسلام الذي أرسل الله تعالى به رسله، وأنزل به كتبه، وهو دينه في السماء والأرض، ولن يقبل الله تعالى من أحد دينا سواه، (عشر سنين) دعوته إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان فقط، قبل أن يفرض عليه الصلوات الخمس ولا غيرها، قائلا (أيها الناس اعبدوا ربا، تعالى شأنه)، لا تعبدوا إلا الله (ووحدوا) تفسير لذلك. وهذه دعوة من قبلة من نوح إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كلهم يقول: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، (الأعراف 59)، وكانت الدعوة في أول البعثة سرا ثلاث سنين، فيما ذكر ابن إسحاق وغيره. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت (واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، (الحجر 94). وقال البخاري رحمه الله تعالى في تفسير سورة الشعراء: قوله عز وجل: (وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك)، (الشعراء 214): حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين)، (الشعراء 214)، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج، أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم، بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب)، (المسد 1- 2). حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله (وأنذر عشيرتك الأقربين)، (الشعراء 214) قال: يا معشر قريش، أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا. ورواهما مسلم أيضا وقال- رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين)، (الشعراء 214)، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم: أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا انفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها. وله عن عائشة رضي الله عنها- قالت: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين)، (الشعراء 214)، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم. وله عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو قالا: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين)، (الشعراء 214) انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، ثم نادى: يا بني عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو، فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه. وكان قبل ذلك في غار حراء... الخ. تقدم معناه في حديث الحارث بن هشام.
وبعد خمسين من الأعوام *** مضت لعمر سيد الأنام أسرى به الله إليه في الظلم *** وفرض الخمس عليه وحتم. وكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى، ثم إلى حيث شاء الله عز وجل -، قال الله تبارك وتعالى في ذكر الإسراء: (بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)، (الإسراء 1)، وقال تبارك وتعالى في ذكر المعراج: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، (النجم 13- 18). وقال البخاري- رحمه الله تعالى: باب حديث الإسراء، وقول الله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، (الإسراء 1): حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبني قريش، قمت في الحجر، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه. باب المعراج. حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رصي الله عنهما: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: بينما أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجعا إذ أتاني آت، فقد قال وسمعته يقول، فشق ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني " به "؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته. وسمعته يقول: من قصه إلى شعرته، فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي، ثم حشي، ثم اعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، فقال الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم. " يضع خطوه عند اقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت، فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه. فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت، إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت، فإذا يوسف، قال: هذا يوسف، فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا إدريس. قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي صالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم. قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى. قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السابعة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم. قال: هذا أبوك فسلم عليه، فسلمت عليه فرد علي السلام. قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذ ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال هي الفطرة أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضي وأسلم. قال: فلما تجاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. رواه مسلم مختصرا. قلت: وقوله في هذه الرواية، عن إدريس مرحبا بالأخ الصالح هذا قد يشكل؛ لان إدريس من آبائه، والمعنى والله أعلم على ما في الحديث: نحن معاشر الأنبياء أبناء علات... الخ. وقال البخاري- رحمه الله تعالى: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله أنه قال: سمعت ابن مالك- يعني: أنسا رضي الله عنه يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم. فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته، حتى أفرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه. ثم أتى بطست من ذهب، فيه نور من ذهب، محشو إيمانا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده- يعني: عروق حلقه، ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا. فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه فسلم ورد عليه آدم، وقال: مرحبا وأهلا، يا بني نعم الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك، ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبا به وأهلا، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عرج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، فأوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وابراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع علي أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله تعالى حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة؟ قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا. فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى، فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل؛ ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: يا رب، إن أمتي ضعفاء أجسامهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا. فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك. قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى، قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط باسم الله. قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام. ورواه مسلم بعد حديث ثابت البناني أصله، وقال نحو حديث ثابت البناني، وقدم فيه شيئا وأخر وزاد ونقص، وهذا السياق روايته لحديث ثابت، قال- رحمه الله تعالى: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن. فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما وسلامه. فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام إذ هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح الباب فإذا أنا بإدريس عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: (ورفعناه مكانا عليا)، (مريم 57)، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام وقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم . قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سورة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا تمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشى، تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعقها من حسنها، فأوحى الله إلي ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى عليه السلام فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني اسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفف عن أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حط عني خمسا. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تكتب شيئا، فإن عملها، كتبت سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه. وقال البخاري- رحمه الله تعالى: باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي، وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فخرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح، علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، حتى عرج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح. قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم- صلوات الله وسلامه عليهم- ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مرجبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى، ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم عليه السلام. قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته، فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي. فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهي بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جبال اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك. وافقه عليه مسلم، رحمه الله تعالى. وله عن مرة، عن عبد الله قال: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، و إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها، قال: (إذ يغشى السدرة ما يغشى)، (النجم 16)، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. الحديث. وهذا الذي ذكرنا من حديث أنس وجابر ومالك بن صعصعة وأبي ذر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وأبي حبة هي من أصح ما ورد، وأقواه وأجوده وأسنده وأشهره وأظهره؛ لاتفاق الشيخين على إخراجهما، وعن هؤلاء روايات أخر لم نذكرها استغناء عنها بما في الصحيحين. وفي الباب أحاديث أخر، عن جماعة من الصحابة، منهم من لم نذكر عمر بن الخطاب وعلي وأبو سعيد وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرظ وأبو ليلى وعبد الله بن عمرو وحذيفة وبريدة وأبو أيوب وأبو أمامة وسمرة بن جندب وأبو الحمأ وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر رضي الله عنهم- أجمعين. ثم الذي دلت عليه الآيات والأحاديث أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا مناما، ولا ينافي ذلك ما ذكر في بعض الروايات في قوله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم، فإن ذلك عند أول ما أتياه، ولا يدل على أنه استمر نائما، ولذا كانت رؤيا الأنبياء وحيا، ولكن في سياق الأحاديث من ركوبه ونزوله وربطه وصلاته وصعوده وهبوطه وغير ذلك ما يدل على أنه أسري بروحه وجسده يقظة لا مناما، وكذا لا ينافي ذلك رواية شريك: فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام، فإن رواية شريك فيها أوهام كثيرة، تخالف رواية الجمهور، عن أنس في أكثر من عشرة مواضع، سردها في الفتح، وسياقه يدل على أنه بالمعنى، وصرح في مواضع كثيرة أنه لم يثبتها، وتصريح الآية (سبحان الذي أسرى بعبده)، (الإسراء 1) شامل للروح والجسد، وكذلك قوله تعالى في سورة النجم (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى)، (النجم 13) جعل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عند سدرة المنتهى، مقابلا لرؤيته إياه في الأبطح، وهي رؤية عين حقيقة لا مناما. ولو كان الإسراء والمعراج بروحه في المنام، لم تكن معجزة، ولا كان لتكذيب قريش بها، وقولهم: كنا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرا ذهابا وشهرا إيابا، ومحمد يزعم أنه أسري به إليه وأصبح فينا، إلى آخر تكذيبهم واستهزاءهم به صلى الله عليه وسلم ، لو كان ذلك رؤيا مناما، لم يستبعدوه، ولم يكن لردهم عليه معنى؛ لأن الإنسان قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس، ولا يكذبه أحد استبعادا لرؤياه، وإنما قص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرى حقيقة يقظة لا مناما، فكذبوه واستهزءوا به استبعادا لذلك واستعظاما له، مع نوع مكابرة لقلة علمهم بقدرة الله عز وجل، وأن الله يفعل ما يريد، ولهذا لما قالوا للصديق وأخبروه الخبر، قال: إن كان قال ذلك، لقد صدق. قالوا: وتصدقه بذلك؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء يأتيه، يأتيه بكرة وعشيا، أو كما قال. هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ واختلف السلف الصالح هل رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ فروى ابن خزيمة وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم . وعن عكرمة قال: سمعت ابن عباس وسئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم. قال: فقلت لابن عباس: أليس يقول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، (الأنعام 103)، قال: لا أم لك، ذلك نوره إذا تجلى بنوره، لم يدركه شيء. وروي عنه من طرق لا تحصى كثرة قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، وعنه رآه بقلبه. وفي رواية: رآه بفؤاده مرتين. رواه مسلم وغيره، وله عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟ وفي رواية قال: رأيت نورا. قال ابن خزيمة في قوله " نور أنى أراه ": هذا يحتمل معنيين على سعة لسان العرب: أحدهما الإثبات ومعناه إني أراه، أو كيف أراه فهو نور، أو فإن ما رأى نور. ويؤيد هذا رواية " رأيت نورا ". المعنى الثاني: النفي، قال: والعرب قد تقول " أنى " على معنى النفي، كقوله عز وجل: (قالوا أنى يكون له الملك علينا)، (البقرة 247) الآية، يريدون كيف يكون له الملك علينا، ونحن أحق بالملك منه؟ ثم روى، عن أبي ذر قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه. وله عن عباد بن منصور قال: سألت الحسن فقلت: (ثم دنا فتدلى)، (النجم 8) من ذا يا أبا سعيد؟ قال: ربي. وله عن المبارك بن فضالة قال: كان الحسن يحلف بالله، لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه. وله عن كعب قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد- صلوات الله عليهما- فرآه محمد مرتين، وكلم موسى مرتين. وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله: (ما كذب الفؤاد ما رأى)، (النجم 11)، فقال عكرمة: تريد أن أخبرك أنه قد رآه؟ قلت: نعم. قال: قد رآه، ثم قد رآه. وروى ابن جرير، عن محمد بن كعب، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: لم أره بعيني، ورأيته بفؤادي مرتين، ثم تلا (ثم دنا فتدلى)، (النجم 8). وقال البغوي: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو أنس والحسن وعكرمة قالوا: رأى محمد ربه. قال ابن كثير: وقول البغوي فيه نظر. وروى البخاري ومسلم، عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من " ثلاث من حدثكهن، فقد كذب: من حدثك أن محمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، (الأنعام 103)، (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب)، (الشورى 51)، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا)، (لقمان 34)، ومن حدث أنه كتم، فقد كذب، ثم قرأت (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)، (المائدة 67) الآية، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم، عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها- فقالت: يا أبا عائش، ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا، فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظرني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: (ولقد رآه بالأفق المبين)، (التكوير 23)، (ولقد رآه نزلة أخرى)، (النجم 13)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: (لا تدركة الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، (الأنعام 103)؟ أو لم تسمع أن الله يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم)، (الشورى 51)؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)، (المائدة 67)، قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله)، (النمل 65)، وزاد في رواية قالت: ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا مما أنزل إليه، لكتم هذه الآية (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)، (الأحزاب 37). وعن أبي هريرة وابن مسعود في آية النجم مثل قول عائشة. قال أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في قول عائشة رضي الله عنها- " فقد أعظم على الله الفرية " قال: هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب، كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها، كان أجمل بها، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائله: قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم، ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها، أكثر ما في هذا أن عائشة رضي الله عنها- وأبا ذر وابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه قد اختلفوا: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه. وقال أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه. وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علما، والإثبات هو الذي يوجب العلم، لم تحك عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خبرها أنه لم ير ربه عز وجل، وإنما تلت قوله عز وجل: (لا تدركه الأبصار)، (الأنعام 103)، وقوله: (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا)، (الشورى 51)، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب، علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق من قال: إن محمد رأى ربه الرمي، بالفرية على الله، كيف بأن يقول قد أعظم الفريه على الله، ثم قال: رحمه الله تعالى: فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، وبيقين يعلم كل عالم أن هذا ليس من الجنس الذي يدرك بالعقول والآراء والجنان والظنون، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة، إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى، ولا أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه برأي ولا ظن لا ولا أبو ذر ولا أنس بن مالك. نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة رضي الله عنها- وابن عباس في هذه المسألة: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس، نقول: عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة، كذلك ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا النبي صلى الله عليه وسلم له أن يرزق الحكمة والعلم، وهذا المعنى من الدعاء وهو المسمى ترجمان القرآن، وقد كان الفاروق رضي الله عنه يسأله عن معاني القرآن فيقبل منه، وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سنا منه وأقدم صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله؛ لأنه قد أثبت شيئا نفته عائشة رضي الله عنها، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة، وإن غلط بعض العلماء في معنى الآية من كتاب الله عز وجل أو خالف سنة أو سننا من سنن النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ المرء تلك السنن، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئا لم ينفه كتاب ولا سنة، فتفهموا هذا لا تغالطوا، ثم قال- رحمه الله تعالى: وقد كنت قديما أقول: إن عائشة حكت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت تعتقد في هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه- جل وعلا- وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمها ذلك، وذكر ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك وأبو ذر رضي الله عنهم- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه لعلم كل عالم يفهم هذه الصناعة، أن الواجب من طريق العلم والفقه قبول قول من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه، إذ جائز أن تكون عائشة رضي الله عنها- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي قبل أن يرى ربه عز وجل، ثم يسمع غيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه قد رأى ربه بعد رؤيته ربه، فيكون الواجب من طريق العلم قبول خبر من أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه. انتهى كلامه، رحمه الله.
|